تعرفت إلى الشاعر والإذاعى والمجمعى الراحل الأستاذ فاروق شوشة منذ 14 عاماً، وكانت المناسبة دعوة وجهها لى مشكوراً للمشاركة فى إحدى حلقات برنامجه التليفزيونى الشهير «أمسية ثقافية»، بعد حصولى على جائزة الدولة التشجيعية عام 2002، يوم التسجيل جلست أنظر إليه وأتأمله ملياً، فابتسم ابتسامة حانية راقية، وسألنى عن سر تركيزى فى النظر إليه وتأمله، فأجبته: لا أتخيل أننى أجلس أمامك، فقد عشت منذ طفولتى عاشقاً لصوتك الأخاذ عبر أثير الإذاعة، مستمعاً إلى برنامجك الإذاعى الأشهر «لغتنا الجميلة»، وذكرت له أن صوته العذب فى ترنيم نثر اللغة العربية وشعرها كان أحد الأسباب المحورية التى ربطتنى بلغتنا الجميلة برباط وثيق لا ينفصم. دعانى الأستاذ فاروق شوشة بعدها للعمل كخبير بمجمع اللغة العربية، ضمن لجنة مسئولة عن إنتاج قاموس للمصطلحات الإعلامية، ومنذ ذلك التاريخ، سعدت سنين عدداً بالجلوس وسط عدد من القامات الفكرية واللغوية، من بينهم الدكتور صلاح فضل، والدكتور الطاهر مكى، والدكتور أحمد مستجير، والدكتور تمام حسان، والدكتور حسنين ربيع، وأساتذة أجلاء آخرون، وكان الأستاذ فاروق شوشة واسطة هذا العقد الفريد.
نقاشات عديدة فزت بها مع الراحل الكريم حول لغة الإعلام، بعضها كان ثنائياً، وبعضها كان من خلال ندوات وأنشطة المجمع، وجمعتنى معه رؤية اتفقنا فيها على أن الإعلام يشكل أملاً وفى الوقت نفسه تحدياً من التحديات التى تواجه اللغة العربية. فى إحدى الندوات التى جمعتنى به ذكرت أن مشكلة وسائل الإعلام أنها صوت أو صورة أو مجموعة أوراق تنقل الجيد والردىء، على مستوى اللغة، فإن نقلت الجيد خدمتها، وإن نقلت الردىء أضرت بها، تحدثت يومها -وكان هذا الكلام عام 2010 إن لم تخنى الذاكرة- عن الدور السيئ الذى يلعبه مسئولو الدولة الذين لا يجيدون الحديث بالعربية فى إفساد الذوق اللغوى العام، وثنى الأستاذ فاروق شوشة على كلامى. لم يكن كلانا يعرف وقتها أن المستوى سينحدر إلى ما وصلنا إليه حالياً، تلك الحال التى يكفى للتعرف عليها أن تراجع لغة إلقاء المسئولين لكلماتهم، خلال الاحتفال بذكرى مرور 150 عاماً على تأسيس مجلس النواب المصرى!.
الرجل كما تعلم كان شاعراً مبدعاً، وإعلامياً قديراً، لكن ما لا يعلمه الكثيرون عن فاروق شوشة أنه كان صاحب رؤية نقدية شديدة العمق، مكنته من الاشتباك الواعى مع قضايا الشأن العام، كان يرفض كل الرفض أن يتحول المثقفون إلى خدم للسلطة، ويرى أن المثقف الحقيقى لا بد أن ينعم بالاستقلالية التى تمكنه من التعبير عن رأيه بمعزل عن أية سلطة أو مؤسسة. وقد عاش حياته نموذجاً للمثقف المستقل المرتبط أشد الارتباط بقضايا مجتمعه والقادر على التفاعل الإيجابى معها، فى ظل حالة ثقافية حرص فيها العديد من المثقفين على الدوران فى فلك السلطة، والعيش فى معيتها، حالة تحولت فيها الثقافة إلى وظيفة، فى وقت كان يؤمن فيها فاروق شوشة أن الثقافة «دور» يقوم به المثقف لصالح مجتمعه ووطنه، لذلك تجد أنه رغم القدرات الهائلة التى كان يتمتع بها الرجل، فإنه لم يحظ بما حظى به غيره، وفى كل الأحوال كان راضياً، وكان جوهر رضاه إحساسه بأنه يقوم بدوره كمثقف بالصورة التى يرتئيها.. رحمه الله.. عاش راضياً.. ومات راضياً مرضياً.
نقلا عن الوطن