بقلم : د. رفعت السعيد | الأحد ١٦ اكتوبر ٢٠١٦ -
٥٤:
١٠ م +02:00 EET
د. رفعت السعيد
ونواصل رحلتنا مع المفكر الدكتور إغناطيوس، الذى يتمادى مع حلمه الساعى لاستعادة الأندلس بما كان عليه من تسامح وتعايش لعله يثمر فى أيامنا الحالية قدرة على تعايش من نوع جديد، وعلى تلاقح الثقافات والحضارات. ونقرأ «يُجمع معظم المؤرخين الإسبان والأوروبيين على أن الدولة الإسلامية فى شبه الجزيرة الأيبيرية قد تعاملت مع ملف التعددية الدينية والعرقية بطريقة جديدة لم تشهدها المنطقة من قبل، ورغم مغالطات البعض فإن الغالبية العظمى تقر بأن الحكام المسلمين عاملوا -بشكل عام- النصارى واليهود بطريقة مقبولة جداً، وتمثل هذا المنهج اللين فى السياسة الضريبية الهينة، وحرية العبادة، مما فتح المجال أمام بقاء عدد كبير من الذميين فى الأندلس تحت سيادة الدولة الإسلامية، واتضح ذلك أيضاً من أن نسبة كبيرة من سكان الأندلس ظلوا على عقيدتهم الأصلية لفترة طويلة من الزمن». ويواصل إغناطيوس ليتحدث عن ظهور ما سماه «جماعة المستعربين»، وهم المسيحيون الذين حافظوا على دينهم الأصلى فى ظل الإمارة الإسلامية وإن أصبحوا يأخذون بحضارة العرب وثقافتهم ولغتهم، وآثر هؤلاء المستعربون الإقامة فى الديار الإسلامية ولم يرحلوا إلى إمارات الشمال المسيحية لأنهم ظلوا يتمتعون بالحرية فى ممارسة عقائدهم وطقوسهم الدينية إذ تركت لهم كنائسهم وأديرتهم ومجامعهم الدينية وقضاؤهم الإكليركى، وفتحت أمامهم فرص تولى الوظائف العامة بما فيها المناصب العسكرية. وكان هناك أيضاً من سُمّوا «المولّدين» وهم أبناء البلد المتحولون إلى الإسلام فقد ظل المولّدون والمستعربون يتحدثون بلغتهم الأصلية (ص27)، ولهذا فقد بدأت القيادات الدينية المسيحية فى الشعور بالخطر من كثرة العناصر التى تركت المسيحية انبهاراً بالحضارة العربية والتسامح الإسلامى الأمر الذى دفع الراهبين أولوخيو وألفارو إلى دعوة الإسبان إلى التشبث بديانتهم وتقاليدهم وعاداتهم الأصلية فلما فشلا فى ذلك بدأوا ما سُمّى «عصر الشهادة» حيث بدأ عدد من الرهبان بالهجوم على الديانة الإسلامية علناً والتهجم على الرسول وسبه سباباً مقذعاً أمام الجمهور «طلباً للشهادة» بهدف تحريك ضمائر المسيحيين وحثهم على التشدد والتمسك بديانتهم، وفى كثير من الأحيان كان الحكام المسلمون يلجأون إلى الكنيسة الكاثوليكية لتهدئة هذا الهجوم (ص28).
ويواصل إغناطيوس مؤكداً أن تاريخ الأندلس يبين لنا حقائق مهمة فى مقدمتها أن الفوارق الدينية والمذهبية لم تكن هى العنصر الحاسم فى العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى الأندلس طوال سبعة قرون وإنما كانت المصالح الاقتصادية والظروف السياسية والتطورات الاجتماعية. ويذكرنا بأن الفتح الإسلامى قد نجح بفضل تعاون فصيل محلى منشق عن العائلة القوطية الحاكمة مع الفاتحين العرب، كما سارع العامة فى مناطق عديدة إلى الترحيب بالجيوش الإسلامية كراهية لقبضة القوط وسلطتهم المتشددة. والمهم فى كل ذلك هو التأكيد على أن المسألة الدينية لم تكن تمثل إشكالية فى المنظومة الفكرية الأندلسية (ص31).
ثم ينتقل إغناطيوس فى قفزة كبيرة نحو ما سمّاه «الإشكالية الأندلسية المعاصرة»، ويقول إن الأندلس قد قدمت أشياء مهمة جداً فى ميدان الحوار الحضارى والتفاهم الدينى، إلا أن أحداث 11 سبتمبر 2001 قد فتحت الباب أمام عناصر تشكك فى ذلك. ويذكرنا أن الرئيس أوباما فى خطابه التاريخى الموجه إلى العالم الإسلامى من القاهرة فى يونيو 2009، قد أكد أن الأندلس قدمت نموذجاً ومثالاً رائعاً وربما فريداً من نوعه للتعايش السلمى بين الأديان. وأكد أن التسامح هو تقليد عريق يفخر به الإسلام، ونشاهد هذا التسامح فى تاريخ الأندلس وقرطبة خلال فترة محاكم التفتيش.
لكن هذا الحديث قد تلقى رداً معاكساً أسفر عن نتائج سلبية تماماً فقد انبرت أبحاث وكتابات أوروبية تهاجم ما سمته «أسطورة» ثم «أكذوبة» الأندلس وخرافة التسامح الإسلامى (ص31). ويمكن أن نقدم كنموذج لهذا الهجوم كتابات المستشرق الإسبانى سيرافين فانخول الذى أصدر كتابين ذائعى الانتشار ينفىtdilh أى إسهام يذكر للعرب والمسلمين فى نهضة الحضارة الإسبانية، وتوالت كتابات مماثلة تحذر من خطر الدين الإسلامى كدين وخطر المسلمين كمسلمين. ويمكن القول إن سيرافين فانخول هو رائد هذا الهجوم ويكفى التأمل فى عنوان كتابيه فالأول هو «الأندلس ضد إسبانيا» والثانى «وهم الأندلس» (ص34).
وتسارعت هجمات الأوركسترا الاستشراقى الجديد لتؤكد ضرورة تقويض الأساطير المؤسسة لمقولة الإسلام المتسامح والطيب، محذرين فى نفس الوقت من التمادى فى تكريس ما سموه «مشروع تحويل القارة الأوروبية إلى دار للإسلام» مستندين فى ذلك إلى تنامى أعداد الجاليات المسلمة المتشددة المقيمة فى أوروبا، وشاركت فى هذه الحملة باحثة يهودية مصرية الأصل هى بات يؤور التى حذرت من تحول المجتمع الأوروبى العلمانى المتطور الحديث إلى بيئة إسلامية بحتة يطغى عليها التعنت والتشدد الفكرى والانغلاق السياسى. وسرعان ما انتقلت هذه العدوى إلى أمريكا (ولعل ظاهرة ترامب وما يلقاه من تأييد خير دليل على ذلك)، خاصة جرائم داعش والقاعدة التى أعطت عموم الأوروبيين والأمريكيين سبباً لكراهية الإسلام والمسلمين. وهكذا تصبح ظاهرة «الإسلاموفوبيا» تهديداً لحلم إغناطيوس بإعادة إنتاج أندلس جديد يسعى إلى تسامح وتعايش وتآخٍ حضارى وثقافى فى ظل تسامح دينى لا يعتبر الدين سبيلاً للصراع وإنما أداة للعيش المشترك. ويصمم إغناطيوس على التشبث بأن الحلم الأندلسى وتجدده ما زال ممكناً بل ضرورياً، ويؤكد بحسم: «إذا استنطقنا المثال الأندلسى فإنه سيكشف لنا عن الواقع البشرى التاريخى المحكوم دائماً بضرورة التفاهم والتلاقى لأن الحياة قبل كل شىء هى معاملة».
فهل من أندلس جديد؟
نقلا عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع