تثميناً لقرار الدكتور جابر نصار، رئيس جامعة القاهرة، بإلغاء خانة الديانة فى جميع مُحَرَّرات جامعة القاهرة، وتمتيناً على مقالى «فتنة جابر نصار»، كتب الدكتور فؤاد عبدالمنعم رياض تعقيبا بعنوان: «جامعة القاهرة.. وتقسيم مصر»، وخص بتجلياته الحقوقية هذه المساحة المفتوحة لكل الآراء الوطنية.. وإلى ما سطره القاضى السابق فى محكمة العدل الدولية، رئيس لجنة تقصى حقائق «30 يونيو»، ليرد عن جامعة القاهرة ورئيسها غائلة المتربصين:
- أصدر رئيس جامعة القاهرة قرارا بحذف خانة الديانة من بطاقات الجامعة ومن كافة أوراقها الرسمية. وقد أثار هذا القرار جدلا عقيما، بل رفضا غير مبرر من جهات معينة، ورفضا لا أساس له سوى التعصب الأعمى، فقرار رئيس الجامعة ليس سوى تطبيق (عملى)، ولعله الأول من نوعه لنصوص الدستور المصرى الحالى، ولما سبقه من دساتير عديدة تقوم على مبدأ المواطنة الذى يرفض أى انتماءات فرعية.
كما ينص بعبارات حاسمة على عدم التمييز القائم على الدين أو الجنس بين المواطنين، هذا فضلا عما تقضى به المواثيق الدولية التى صدقت عليها مصر، والتى تُحرم أى تمييز قائم على الدين أو الجنس، بل تهبط بهذا التمييز إلى مرتبة الجريمة ضد الإنسانية إذا انطوى على اضطهاد سببه اختلاف الدين. وجدير بالذكر أن مصر ستحاسَب هذا العام أمام المجلس الدولى لحقوق الإنسان عن كافة الممارسات الخاطئة فى مجال حقوق الإنسان.
ومما يؤسف له أن كافة المؤسسات الأخرى للدولة لم تتنبه (وربما لم تجرؤ) حتى الآن على حذف خانة الديانة من كافة الأوراق الرسمية، رغم ما تقضى به نصوص الدساتير المصرية المتعاقبة والمواثيق الدولية المُلزمة، التى نصت جميعها على عدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو الجنس، وذلك أيضا رغم ما ثبت من معاناة أفراد الشعب المصرى من التمييز الفعلى إن لم يكن الرسمى فى العديد من مرافق الدولة، التى أعملت التمييز الذى قامت به المؤسسات المختلفة كجواز سفر يحدد هوية كل مصرى وأسلوب معاملته.
ويحضرنى فى هذا المقام ما قمت به خلال رئاستى للجمعية المصرية للقانون الدولى فى تسعينيات القرن الماضى من محاولة حذف خانة الديانة من بطاقات الجمعية، وما قابل ذلك من رفض رسمى، ولعل ذلك كان بسبب ما تمتع به «الإخوان» فى هذا الوقت من سلطة فعلية، وهى سلطة كانت ترفض الاعتداد بمصر كدولة موحدة كما اتضح فيما بعد، ولا مجال بلا شك الآن لمواصلة نفس الأسلوب الداعى للفرقة، وغير الدستورى.
ولم يعد خافياً سعى الدول الكبرى للقضاء على وحدة مصر وتقسيمها على أساس الدين، فقد تم الكشف عن مشروع قدمه الداهية السياسى «بريجينسكى» بالولايات المتحدة الأمريكية لتقسيم مصر على أساس دينى إلى «دويلات» تجمع كل فئة من مسلمين ومسيحيين ونوبيين وسينائيين، وتم وضع الخرائط اللازمة التى تفصل بين كل دويلة وأخرى لتحقيق هذا الهدف.
وقد تم وضع هذا المشروع فى الأدراج إلى أن يحين الوقت المناسب لتنفيذه، ولعل هذا الوقت كان على وشك الحلول قبل ثورة 30 يونيو، وقد تم كذلك اليوم الكشف عن تصريحات لمرشحة الرئاسة الأمريكية هيلارى كلينتون عندما كانت وزيرة الخارجية، وهى تصريحات تعبر بوضوح عن دعم الإخوان لتولى الحكم فى مصر حتى يكونوا خير أداة لتنفيذ خطة التقسيم المنشود.
وقد تم البدء فى تنفيذ سياسة تقسيم العديد من الدول العربية الشقيقة كالسودان والعراق وسوريا وليبيا، وذلك عن طريق إثارة النزاعات الدينية والعرقية القائمة على التعصب الأعمى، والتى بعدت كل البعد عن مبدأ المواطنة الذى يجب أن تقوم عليه الدولة.
ولكن مازالت الدولة المصرية صامدة كالطود، غير أنه يتعين على كافة مؤسسات الدولة، بل على كل مصرى حريص على وحدة مصر، إدراك المفهوم الحقيقى لماهية المواطنة وإدراك خطورة التمييز الهادم لهذه المواطنة فى أى مجال كان على كيان مصر.
ولا يكفى لتفعيل مبدأ المواطنة إقصاء كل ما من شأنه التفرقة بين المواطنين فى المجال الرسمى لمؤسسات الدولة فحسب، بل يجب قبل ذلك تحريم وعقاب كل مَن يسعى إلى غسل مخ المواطنين البسطاء وأشباه المثقفين وإلى حث كل فئة على كراهية الأخرى بسبب اختلاف الدين، واعتبار مرتكب هذا الفعل شريكا فى أى جريمة تترتب على الدعوة لكراهية الآخر وإلقاء التهم الجزافية عليه.
ولا يخفى أن تزايد الدعوة للكراهية القائمة على الدين فى الآونة الحالية، وبخاصة فى صعيد مصر وفى كافة أنحاء الريف، أصبح يؤدى إلى صعوبة قيام أى حياة مشتركة بين الفئات الدينية المختلفة وإرغام الفئات الأضعف على ترك المقر الذى عاشت فيه قرونا حرصا على حياتها.
ولا شك أن ذلك من شأنه أن يؤدى حتما إلى نشوء مناطق منفصلة عن بعضها البعض، تتجمع فى كل منها طائفة دينية متقوقعة على نفسها، وهو أمر يشكل فى الواقع النواة الحقيقية لخلق دويلات متعددة قائمة على الدين. ومن جانب آخر، يتعين على الدولة دعم، بل مكافأة، كل مَن يسهم فى الدعوة إلى وحدة الأمة المصرية الحقيقية وفهم الأديان على حقيقتها، التى لا تتعارض ألبتة مع المساواة بين البشر والدعوة إلى حب بعضهم بعضا، ويجدر تكليل هذا الدعم بالتقدير بدلا من الزجر والعقاب.
وقد انتهزت فرصة صدور قرار رئيس الجامعة «الحكيم» بحذف خانة الديانة ومنع التمييز بين الطلاب لدق ناقوس الخطر الذى يهدد كيان مصر، والناجم عن المسار غير المسؤول الذى يغذى التمييز فى مختلف نواحى الحياة بين المواطنين.
وقد دعانى كذلك إلى طرح هذه الرؤية مشاهداتى وتجربتى العملية كقاضٍ سابق فى المحكمة الدولية لجرائم الحرب، حيث شاهدت عن قرب تفكك دولة كبرى مثل يوغوسلافيا إلى ثلاث دويلات هى الصرب والبوسنة وكرواتيا، وذلك نتيجة للدعوة إلى الكراهية والعداء بين الفئات الدينية واضطهاد الفئة الدينية الأقوى للفئة الدينية الأضعف.
كما دعانى إلى ذلك ما لمسته عن قرب- خلال قيامى بمهمة التحقيق فى كافة أنحاء مصر، خلال رئاستى لجنة تقصى الحقائق ومن قبلها كعضو للمجلس القومى لحقوق الإنسان- من نمو للكراهية ودعوة للعنف من الأغلبية المسلمة ضد الأقلية المسيحية التى جعلت التعايش المشترك صعبا، بل قد تجعله مستحيلا.
وقد حان الوقت إن لم يكن قد فات لاتخاذ الدولة الموقف الحاسم واللازم لوضع حد للتفرقة الصادمة والمهينة، التى أصبحت جزءاً من حياة المجتمع المصرى، والتى تغذيها الدعوة الجاهلة إلى التعصب الدينى، الواجب القضاء عليه بمختلف الوسائل المادية والمعنوية سواء من جانب الدولة أو من جانب المواطنين الواعين.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع