تُمثل الأسابيع القليلة الفائتة أوقاتاً مثيرة فى السياسة الخارجية المصرية؛ وهى أوقات لا تشهدها مصر عادة إلا مرة كل بضعة عقود.
سيُمكننا القول إن مصر مقدمة على تغيير استراتيجى جوهرى فى إدارتها لسياستها الخارجية وموقعها فى الإقليم؛ وهذا الأمر يُفضى إلى احتمالات مفتوحة، ولا يمكن قياس نتائجه الآن.
إذا تخيلنا أن السياسة الخارجية المصرية عبارة عن سيارة تسير على طريق سريع، فيجب أن نتصور الآن أن تلك السيارة أعطت إشارة خاطفة إلى تغيير اتجاهها، ثم استدارت، واتخذت الطريق المعاكس.
لا يجب التقليل من حجم التحول الذى صنعته بعض التطورات فى الأيام الفائتة على مستقبل الأوضاع الاستراتيجية والسياسية فى مصر وفى الشرق الأوسط.
يوم الخميس الماضى، نشرت «الجارديان» موضوعاً يشير إلى أن وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف طلب -بإلحاح- حضور مصر محادثات لوزان، فى سويسرا، بشأن مناقشة الأوضاع فى سوريا.
تقول الصحيفة إنها اطلعت على رسائل بريدية توضح طلب «ظريف» من نظيره الأمريكى جون كيرى، حضور «القاهرة»، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ أكدت أن إيران رهنت حضورها الاجتماع بحضور ممثلين لمصر والعراق.
كان اجتماع لوزان مقرراً لمناقشة الأوضاع الملتهبة فى سوريا، على خلفية المأساة التى تشهدها حلب تحت القصف المتواصل، وعجز مجلس الأمن عن الوصول إلى حل، بسبب تعارض الإرادتين الروسية والأمريكية. وقيل إن الدول الفاعلة على الأرض فى سوريا سيمكنها أن تحضر هذا الاجتماع، ولهذا فقد دُعيت السعودية وقطر وتركيا والولايات المتحدة، إضافة إلى إيران. كلنا يعرف أن تلك الدول لديها وجود فعلى فى سوريا، سواء من خلال قواتها المسلحة وعناصر الاستخبارات التابعة لها، أو من خلال الميليشيات التى توظّفها وتدعهما بالمال والسلاح؛ وهو أمر لا تقوم به مصر بطبيعة الحال.
بهذه الذريعة تم استبعاد مصر مبدئياً من حضور الاجتماع، قبل أن تُصر إيران على وجودها، وفق ما نشرته «الجارديان».
فى اليوم نفسه الذى عرفنا فيه هذه المعلومة، كان المتحدث باسم «الخارجية المصرية» يعلن أن «القاهرة» بدأت جهود وساطة بين السلطات السورية من جانب، وبعثة الأمم المتحدة العاملة فى دمشق من جانب آخر، بهدف إدخال مساعدات إلى حلب، وتسهيل عمليات نقل الجرحى إلى خارجها، بالتوازى مع إدخال المساعدات الإنسانية والأغذية.
يشير هذا البيان إلى أول وجود دبلوماسى فعّال لمصر على الأراضى السورية فى مقاربة الأزمة. وقد أشار المتحدث أيضاً إلى أن هناك ترتيبات لكى يقوم القائم بالأعمال المصرى بزيارة حلب، فى ظل تعزيز هذا الوجود. لم يكن مستغرَباً أن توافق السلطات السورية على الوساطة المصرية المشار إليها، وربما ستكون تلك السلطات حريصة على نجاح جهود القاهرة فى هذا الصدد، إذ كان مدير الاستخبارات السورية على المملوك، قد غادر مصر للتو بعد زيارة خاطفة حرص البلدان على الإعلان عنها والتنويه بأهميتها. لم تكن «القاهرة» مضطرة إلى الإعلان عن زيارة «المملوك»، لكنها فعلت ذلك لأنها تريد أن تشير إلى موقفها الجديد، الذى يبدو أنه سيكون أكثر فعالية تجاه الأزمة عموماً، وأكثر انفتاحاً على حكومة بشار الأسد خصوصاً.
ليس هذا فقط، فقد أعلنت «القاهرة» أيضاً أن محادثة هاتفية جرت بين رئيس الوزراء العراقى «العبادى»، والرئيس السيسى؛ وهى محادثة نادرة بطبيعة الحال.
تلك هى الأخبار المؤكدة، لكن ثمة الكثير من التقارير ذات الوجاهة التى تتحدث عن زيارات سرية متتالية متبادلة بين مسئولين سوريين ومصريين، من بينهم «المملوك» نفسه، فضلاً عن لقاءات تُنظمها «القاهرة» لمعارضين سوريين مع أطراف فى سلطة «دمشق»، ولقاءات بين مسئولين مصريين وإيرانيين وعراقيين.
لا يمكن إدراك مردود تلك السياسات بوضوح إلا بمقارنتها بما جرى فى مجلس الأمن قبل أسبوعين، حين صوتت مصر لصالح مشروع القرار الروسى بشأن سوريا، فأغضبت الشقيقة السعودية، ومعها قطر بطبيعة الحال.
لقد اعتبرت «الرياض» أن تصويت مصر لصالح المشروع الروسى بمنزلة تغريد خارج السرب العربى، فيما قالت بعض الأقلام السعودية، القريبة من دوائر الحكم، إن هذا التصويت يستلزم معاقبة مصر وفض التحالف معها.
فى غضون تلك الهجمات الإعلامية والانتقادات الدبلوماسية، عرفنا أن الجانب السعودى قطع إمدادات الوقود الشهرية التى يُزودنا بها وفقاً لعقد تم توقيعه إبان زيارة الملك سلمان إلى مصر فى مايو الماضى. بوغت الرأى العام المصرى بقرار قطع إمدادات الوقود، خصوصاً أن هذا القطع ترافق مع حملة إعلامية عبر «السوشيال ميديا»، راح فيها أشقاء سعوديون يعايرون المصريين بالمساعدات التى قدّمتها «الرياض» لـ«القاهرة»، كما هيمن الغموض على مستقبل العلاقات بين البلدين.
على الجانب المصرى، كانت هناك ممارسات غاية فى التدنى أيضاً بطبيعة الحال، إذ راح البعض يشن هجمات على السعودية، ويعايرها أيضاً ببعض أنماط الدعم التى حصلت عليها من مصر فى أوقات سابقة، حين كان ميزان القوة والثراء يصب لصالح الجانب المصرى. لا تعنى تلك الحملات المتبادلة كثيراً، خصوصاً أنها سرعان ما تهدأ، ويتم تطويق أثرها، فى حال أراد صُنّاع القرار فى البلدين، وعند اتخاذ إجراءات من شأنها تعزيز العلاقات والرد على التساؤلات ولجم الشكوك. لكن لا يبدو أن الجانبين راغبان فى تطويق آثار تلك الأزمة سريعاً. فعلى الجانب السعودى، ثمة صمت رسمى، يرافقه بعض الانفلات من أقلام وأفواه مقربة من دوائر الحكم.
وعلى الجانب المصرى، تحدث الرئيس السيسى قبل عشرة أيام، فى الندوة التثقيفية للقوات المسلحة، حديثاً يمكننا أن نفهم منه ما يلى:
أولاً: أن مصر مُصرة على المضى قُدماً فى تعاطيها السياسى فى الملف السورى واليمنى على الأسس الراهنة التى تسميها «ثوابت».
ثانياً: أن مصر دولة مستقلة فى سياستها الخارجية، وستظل كذلك مهما كلف الأمر.
ثالثاً: أن مصر تأخذ على بعض الدول العربية تورّطها فى سياسات سبّبت الخراب والدمار لدول أخرى.
رابعاً: أن مصر لن تحارب خارج أراضيها فى معارك ملتبسة ولأهداف ملتبسة.
خامساً: أن مصر لن تقبل الضغوط من أى جانب، وستسعى لسد احتياجات شعبها عبر وسائل مختلفة وبطرق متباينة.
تمثل تلك رسالة واضحة تعنى ببساطة أن القاهرة لا تقبل الضغوط بخصوص دورها وسياساتها إزاء الملف السورى، وليس لديها ما تُقدّمه فى خدمة محور «واشنطن - الرياض»، وأنها ربما تكون فى هذا التوقيت أكثر ميلاً إلى محور «موسكو - طهران»، فى ما يتعلق بهذا الملف.
سيترتب على ذلك بالطبع أن تتطور العلاقات المصرية - الإيرانية، وتتحسّن علاقات «القاهرة» بـ«بغداد»، ويتم حل المشكلات العالقة بين «القاهرة» و«موسكو»، وصولاً إلى تعزيز الدور المصرى فى مساندة حل سياسى فى سوريا، لا يستبعد بالضرورة بشار الأسد من مستقبل البلاد.
وفى المقابل، قد تكون هناك عواقب مكلّفة على صعيد العلاقات المصرية - الخليجية.
مصر فى مستهل تغيير استراتيجى، قد يأخذها إلى آفاق جديدة، وتحديات كبيرة.
نقلا عن الوطن