فى مثل هذا اليوم 29 اكتوبر1888م..
لقد شهدَ عقدُ مُعاهَدة القسطنطينيَّة عام 1888م منافسةً ضاريةً بين كلٍّ من بريطانيا وفرنسا، وإنَّ بريطانيا صَمَّمتْ منذ عام 1864م على أنْ تُلقِي بثقلها على مصر؛ لتُسخِّر القناةَ لخِدمة مَصالِحها الاستعماريَّة، ولو من وَراء سِتارٍ تُغطِّي به تصرُّفاتها، وقد ظهرَتْ سَيْطرة بريطانيا على هذا الشريان الحيوي حينما احتلَّت مصر عام 1882م، ولكنَّها مهَّدت لهذه السَّيْطَرة في الفترة القصيرة التي سبقتْ ذلك الاحتلال.
وعلى ذلك لم تشهَد القناةُ قبل سنة 1882م إلاَّ حربين: الحرب التي اشتَعلَتْ بين بروسيا وفرنسا في سنة 1870م، والحرب التي نَشِبَتْ بين الدولة العثمانيَّة وروسيا في عام 1877م.
ففي الحربِ التي قامت بين فرنسا وبروسيا سنة 1870م - وفي أثناء هذه الحرب - لم يستَطِع ديليسبس أنْ يعبَثَ بحريَّة المِلاحة للسُّفن الحربيَّة التابعة لطرفي الحرْب؛ ذلك لأنَّ بريطانيا كانت تُرِيد ذلك، ومن الحوادث الجَدِيرة بالذكر أنَّه في أثناء تلك الحرب في 15 أغسطس سنة 1870م التقَتْ عبَّارتان حربيَّتان مُتعادِيتان: إحداهما ألمانية والأخرى فرنسيَّة في بحيرة التمساح، وكان ذلك في يوم عيد ميلاد الإمبراطور الألماني غليوم، فما كان من السَّفينة الفرنسيَّة إلاَّ أن أطلقت صفَّارة التحيَّة للسفينة الألمانيَّة، وحيَّتها السفينة الألمانيَّة بتحيَّة أحسن منها، وهنا وقفَتْ الدولة العثمانيَّة على الحِياد، وفَتحَت القناة للسفن الحربيَّة والتجاريَّة لطَرفَي الحرب من غير استِثناء، واعتبرت الحالة السابقة من شأنها بَقاء القَناة مفتوحةً لسفن المتحاربين ما دامَت الدولة العثمانيَّة ومصر تَقِفان على الحِياد، وما دامتْ سفن الطرفين المُتَقاتِلين تَرعَى حُرمة القَناة وسلامتها وتحتَرِم لوائح المرور، فماذا يَحدُث حينما تكون مصر أو الدولة العثمانيَّة مشتركةً في الحرب؟!
شَخَصَتْ هذه الحالة في أبريل سنة 1877م، وحارَب الجيش المصري إلى جانب الدولة العثمانيَّة، فصارَ من حَقِّ مصر أنْ تمنع مُرور السفن الروسيَّة في قَناة السويس، وأنْ تستخدم القَناة في العمليَّات الحربيَّة كجزءٍ لا يتجزَّأ من الأراضي المصريَّة، ولكنَّ بريطانيا التي تسلَّطت على القَناة، ووقفَتْ في تلك الحرب على الحِياد في الظاهر - زعمَتْ أنَّ غلقَ القناة في وجْه روسيا قد يحمل روسيا على استِخدام حُقوقها كبلدٍ مُحارِبٍ؛ فتنسف القناة وتُعطِّل الملاحة فيها، كما ادَّعت أنَّ الدولة العثمانيَّة قد تستغلُّ ظُروف الحرب وتستَخدِم القناة في تَحقِيق أطْماع عسكريَّة، ووجَّهت بريطانيا مذكرة إلى قيصر روسيا وسلَّمتها لسَفِيره في لندن في 6 مايو سنة 1877م، وقالت فيها: إنَّ قناة السويس - من وجهة النظر البريطانيَّة - طريق يصل الشرقَ بالغرب، ولا ينبغي في أيِّ الأحوال أنْ يُوصَد هذا الطريقُ أو يتعرَّض لأيِّ خطرٍ كان، وأنَّه فيما إذا حاوَل أحدُ طرفي الحرب أنْ يَفرِض الحصرَ على القَناة، أو يقوم بعمليَّاتٍ حربيَّة في مِياهها، فإنَّ حُكومة بريطانيا ستَعتَبِر ذلك تهديدًا للهند، وحينئذٍ لن تستمرَّ على حِيادها السلبي.
وأمَّا خديوي مصر، فقد أعلَنَ أنَّه اتَّخذ الإجراءات الوقائيَّة التي تكفل الملاحةَ في القَناة لسفن البلاد المحايِدة، وأقامَ على طُول القناة رقابةً بوليسيَّة، وأخطر قناصل الدول في يوليو سنة 1877م بأنَّ السلطان العثماني قد قرَّر تركَ القناةَ مفتوحةً طوال مدَّة الحرب لسفن المُحايِدين، وإغلاقها دون السفن الروسيَّة، وبذلك كفل الملاحة في القَناة ووَقاها من العُدوان، ولم تُحاوِل روسيا مهاجمةَ مصر أو قَناة السويس.
وفي سنة 1877م اجتَمَع معهد القانون الدولي وأصدَرَ القرار الآتي نصُّه: "أنْ تبرم معاهدة دولية تضع قناة السويس في حالةِ الحربِ بمعزِلٍ عن العُدوان".
وفي الوقت نفسه الذي اتُّخِذَ لتنفيذ المؤامرة سنة 1882م، كان قد انعَقَد مؤتمرٌ دولي في القسطنطينيَّة، وفي جلسة المؤتمر الثانية في 25 يونيو سنة 1882م، اقتَرَح رئيس وُزَراء فرنسا على المؤتمر أنْ يُوافِق على صِيغة سمَّاها "ميثاق النَّزاهة"، وكان قد اطَّلع عليه جرانفل وزيرُ خارجيَّة بريطانيا، ووافَق عليه هذا الأخير، وفيما يلي صيغة ذلك الميثاق:
"تتعهَّد الحكومات التي وقَّع مندوبوها على هذا القَرار بأنها في كلِّ اتِّفاق يحصل بشأن تسوية المسألة المصريَّة لا تبحث عن احتلال أيِّ جزءٍ من أراضي مصر ولا الحصول على امتِيازٍ خاص بها، ولا تُحاوِل نَيْلَ امتيازٍ تجاري لرَعاياها، دون أنْ يُخوَّل هذا الامتياز لرَعايا الحكومات الأخرى".
وبعد احتِلال بريطانيا لمصرَ عام 1882م فزعت أوروبا، وحاوَلت الضغط عليها لتجليها عن مصر، لا إيمانًا بحقِّ مصر في الحياة وفي السِّيادة؛ ولكنْ لكيلا تتفرَّد بريطانيا بهذا المركز الفذِّ في قناة السويس، وكانت فرنسا التي غُرِّرَ بها واستعمَلتْها بريطانيا مخلب قط، ولم تنلْ بغيتها - أكثرَ شعورًا بالمرارة، وتحت تأثير هذا الضغط استَطاعتْ بريطانيا أنْ تُخفِي نيَّاتِها الحقيقيَّة، وأنْ تُغرِّر بمنافسيها وتجرَّهم إلى طريقٍ ظاهرُه الاعتدالُ وباطنُه الخبث ولؤم الطَّبع؛ ذلك لأنها في تصريحاتٍ متعدِّدة أعلنتْ أنَّ احتِلالها لمصر أمرٌ مُؤقَّت، وأنها مستعدَّة للجَلاء بعد أنْ يوضع نِظام يكفل حريَّة الملاحة في قَناة السويس، وكانت بريطانيا تقول ذلك وهي تعرف أنها لا تَقبَل الملاحة الحرَّة في قَناة السويس، بل تُرِيدُها حريَّة إنجليزيَّة في نِطاق مَصالِحها الشخصيَّة، وسَيْطرتها الخفيَّة على الحركة الملاحيَّة، على أنَّ نصوص الوثائق الرسميَّة التي صدَرتْ عن وزارة الخارجيَّة البريطانيَّة، لا غنى عنها كأسانيد يُحتَجُّ بها في كُلِّ وقتٍ، ولقد حاوَل لورد جرانفل وزيرُ خارجيَّة بريطانيا أنْ يتخلَّص من الحرَج الذي وقَع فيه، بطرْح المسألة على بِساط البَحث الدولي، والدعوة إلى عقْد مُعاهَدة دوليَّة تُنظِّم هذه المسألة، مع أنَّ ذلك كان أمرًا يعني مصرَ صاحبةَ القناة، ولا يعني الدولة المُغتَصِبة المتعدِّية على قَناة السويس.
ولقد أظهرتْ رغبة بريطانيا في وضْع نِظامٍ لتأمين حريَّة المرور في القَناة مع الدول الأخرى في منشور وزير الخارجيَّة البريطانيَّة لورد جرانفل إلى الدول الأوروبيَّة والمؤرَّخ في 3 يناير سنة 1883م، وفي تقرير لورد دفرن المؤرَّخ في فبراير سنة 1883م.
ولقد قسم منشور جرانفل مسائل مصر إلى قسمين: مسائل تتعلَّق بالدول الأخرى وضرورة مُوافَقة الدول الأوروبيَّة الكبرى، ومسائل تختصُّ بأمور مصر الداخليَّة، فمن المسائل الأولى مسألة قناة السويس؛ ولذلك تدعى الدول على أساس النحو التالي:
1- تكون القَناة حرَّةً لمرور كلِّ السفن في كلِّ الظروف.
2- وفي وقت الحرب يُحدَّد الوقت الذي تبقى فيه السفن الحربيَّة في القناة، ويجب ألاَّ ينزل فيها جنودٌ أو عتادٌ حربي.
3- ألاَّ تقوم أعمال عدوانيَّة في القناة، أو في مَداخِلها، أو في أيِّ مكان في المياه المصريَّة.
4- ولا يُطبَّق هذان الشرطان على الإجراءات التي تتَّخِذها مصر في الدِّفاع عن القناة.
5- وإذا حدَث أيُّ تلَف بالقناة من سفن إحدى الدول، فتُكلَّف هذه الدول بدفْع نفقات الإصلاح.
6- تأخُذ مصر كلَّ التدابير في حدود قوَّاتها لتأييد الشروط التي وضعت لانتِقال سفن المتحاربين في وقت الحرب.
7- لا تُقام تحصينات على القناة أو في منطقتها.
8- لا يُوضَع في الاتِّفاق أيُّ شرط يُؤثِّر على حُقوق حكومة مصر أكثر ممَّا ذكر.
وقامَت المفاوضات بين بريطانيا وفرنسا بشَأن القَناة في 29 نوفمبر سنة 1884م، وفي أوائل سنة 1885م (21 يناير) وافَقت الحكومة البريطانيَّة على اقتراح الوزير الفرنسي جيل فري بشأن تَنظِيم مركز القناة في معاهدة، وتكون لجنة تمثل فيها الدول الكبرى، وكان الوزير الإنجليزي جرانفل يُفضِّل قيام المُفاوَضات بين العَواصِم الأوروبيَّة المختلفة، ولكنَّه وافق أخيرًا على الرأي الفرنسي.
ووافَقت الدولتان على الإعلان الآتي، وهو من حيث إنَّ الدول الكبرى متَّفقة على الاعتِراف بضرورة المفاوضات، لوضْع نظام نهائي لضَمان حريَّة استِخدام كلِّ الدول لقَناة السويس في كلِّ الأوقات، فقد اتَّفقت الحكومات السبعُ على تكوين لجنةٍ مكونة من مندوبين تُعينهم الحكومات ويجتَمِعون في باريس في 10 مارس على أن يتخذوا أساسًا لِمُفاوَضتهم منشور لورد جرانفل المؤرَّخ 3 يناير سنة 1883م.
ولقد اتَّخذت الدول السبع الكبرى (إنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا والنمسا والمجر) تصريحَ لورد جرانفل أساسًا لاتفاقيَّة وقَّعَها مندوبو هذه الدُّول ومعهم مندوبٌ عثماني في مارس سنة 1885م لعقْد مؤتمر مبدئي في باريس، يتكوَّن من ممثِّلي هذه الدول ومعهم مندوبٌ من لدن خديوي مصر، (وانضمَّ إليهم بعد ذلك مندوبو بعض الدول الأخرى مثل: إسبانيا وهولندا)؛ لوَضْعِ أساس اتِّفاقية دوليَّة بشأن قناة السويس، هذه الاتِّفاقية تدرسها الحكومات فيما بعدُ، وتعدل فيها إذا أرادت، أو وجدت ذلك التعديل ضروريًّا باتِّفاقها جميعًا فيما بينها.
ولقد جعلت بريطانيا هذه الاتِّفاقيَّة المبدئيَّة الخاصَّة بالقناة أساسًا للنص الخاص بالقناة في اتِّفاقية سير هنري در مندولف مع الباب العالي في سنة 1887م، الخاصَّة بِجَلاء الإنجليز عن مصر بشروطٍ معيَّنة ورجوعهم إليها إذا قام خطر داخلي أو خارجي يُهدِّد سلامَ مصر وأمنَها، وعلى أيِّ حال لم تصلْ هذه الاتِّفاقية الأخيرة إلى نتيجة نهائيَّة؛ لأنَّ السلطان رفَض التصديق عليها.
ولقد اجتمعت اللجنة في 30 مارس سنة 1885م ومثَّل إنجلترا سير جدوليان بونسفوت وسير ريفرز ولسن، وافتتح اجتماعَ اللجنة الوزيرُ الفرنسي جيل فري، الذي أعلَنَ أنَّ قناة السويس فكرةٌ عبقريَّة "وأنها قبلَ كلِّ شيء عالميَّة وأوروبيَّة وإنسانيَّة"، وأنَّه لتأكيد هذه الفكرة العالميَّة للقناة ستفتتح هذه اللجنة أعمالها، وظهَر في مناقشات هذه اللجنة النِّزاعُ الشديد بين فرنسا وإنجلترا، واستغرقت أعمال هذه اللجنة ست عشرة جلسة، وبعد أن انتهت اللجنة من مناقشاتها تقاعَدت إنجلترا عن السير في إنهاء الموضوع، فاضطرَّت فرنسا إلى تهديد إنجلترا بأنها لن تسمح أبدًا بسَيْطرة الإنجليز على مصر والقناة.
واضطرَّت وزارة سولسبري إلى مُتابَعة السير في المشروع وأبدَتْ كثيرًا من الاعتراضات، ولكنَّ الدولتين وصَلَتا في آخِر الأمر إلى توحيد وجهات النظر، وأرسلتا في 25 يونيو سنة 1885م مشروعهما للدول الأخرى وللدولة العثمانيَّة للتصديق عليه.
ويلاحظ في الاتِّفاقيَّة النهائيَّة الخاصَّة بالقناة أنَّ إنجلترا نفذت فكرتها فيما يختصُّ بحريَّة المرور، فكان أوَّل شيء اتَّفق عليه مندوبو الدول جميعًا، هو حريَّة المرور في القناة لسفن جميع الدول التجاريَّة والحربيَّة وقتَي السلم والحرب، كذلك أكَّدت إنجلترا حُقوق الحكومة المصريَّة في الدِّفاع عن القناة؛ فهي جزء من الأراضي المصرية، كما وجدت من محاولات المندوب العثماني تسجيل حقوق العثمانيين ونُفُوذ السلطان العثماني.
وبالرغم من أنَّ هذه الاتفاقيَّة قرَّرت مبدأ المساواة بين الدول وأكَّدته، كما أقرَّت عدمَ انفِراد أيِّ دولة بنُفُوذ متفوِّق في منطقة القناة، إلاَّ أنَّ إنجلترا بِحُكم احتلالها العسكري للبلاد ومركزها الممتاز فيها، قد أصبح لها بالفعل من الناحية العمليَّة نُفُوذ مُتفوِّق في القناة.
فإصرارُ إنجلترا على أنْ يُوكَل أمر تنفيذ الاتفاقيَّة إلى الحكومة المصريَّة، قد جعَلَ - بطريقةٍ غير مباشرة - أمرَ تنفيذها إلى الحكومة الإنجليزيَّة، فالباب العالي لم تكنْ له سلطةٌ فعليَّة، فلن تلتَجِئَ إليه الحكومة المصريَّة، وإذا لم تلتَجِئْ إليه الحكومة المصريَّة فلن يلتجئَ هو بدوره إلى الدول؛ لأنَّ إنجلترا لن تلجَأَ إلى الحكومة المصريَّة في مثل هذا الموقف أبدًا.
وكان من نتيجة الاختِلافات التي ثارَتْ بين البلاد المشتركة في المؤتمر، أنْ عجز المؤتمر عن الوصول إلى أيِّ نتيجة، على الرغم من أنَّه ظلَّ منعقدًا لمدَّة شهرين ونصف، وأسفَرَ عن تقرير "عرض المشروعات المُقتَرَحة على الأمم"، وانقضت ثلاث سنوات من التصارُع الحاد قبل أنْ تصلَ الدول المتنافسة إلى تسويةٍ، وفي 28 أكتوبر سنة 1888م تَمَّ في القسطنطينية توقيعُ وثيقة عنوانها: "اتفاقيَّة خاصَّة بضَمان حريَّة استِعمال قَناة السويس البحريَّة أُبرِمت في القسطنطينيَّة يوم 29 سنة 1888م بين روسيا وألمانيا والإمبراطوريَّة النمساويَّة-المجرية وإسبانيا وفرنسا وإنجلترا وهولندا والدولة العثمانية"، (وقد انضمَّت إلى تلك الاتِّفاقيَّة بعد ذلك اليونان والبرتغال والسويد والنرويج والدنمرك واليابان والصين).
وتُعتَبر البلاد التي وقَّعت تلك الاتفاقيَّة أعضاء فيها من الناحية القانونيَّة، ومعنى هذا: أنَّه لا يمكن إجراء أيِّ تعديل في اتِّفاقيَّة سنة 1888م إلا بموافقة جميع البلاد الموقِّعة عليها، وإذا حدَث غير ذلك فإنَّ جميع القَرارات التي يَجرِي اتِّخاذها بهذا الشأن هي قَرارات باطلة ولا قيمة لها على الإطلاق، وبِمُضِيِّ الوقت ازدادَ عدد الأعضاء المشتركين في اتِّفاقيَّة 1888م؛ نتيجةً لتصديق البلاد التي خلَّفت الإمبراطوريَّة النمساوية-المجرية وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا ومعظم البلاد العربيَّة، ولجميع هذه البلاد - باعتبارها الوريثة الشرعيَّة للبلاد التي سبقَ أنْ وقَّعت اتفاقيَّة 1888م - الحق القانوني في الاشتراك في المباحثات والقرارات الدولية التي تصدُر بشأن قناة السويس، وقد أوضحت حكومة اتِّحاد الجمهوريَّات السوفيتيَّة الاشتراكيَّة ذلك الحقَّ في "بيان صادر بشأن قناة السويس" بتاريخ 9 أغسطس سنة 1956م، قُبَيْلَ انعقاد مؤتمر لندن نفسه، ولكنَّ البلاد الغربيَّة اختارت - بطريقة تعسفيَّة - البلاد المشتركة في مؤتمر لندن، ولم تضعْ في اعتبارها المبادئ الدوليَّة التي يجب مراعاتها في المؤتمرات الدوليَّة، ولم يكن بين البلاد المشتركة في مؤتمر لندن بلدٌ واحد من البلاد التي كانت جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية.
ويتَّضح مَدَى تحيُّز البلاد الغربيَّة في اختيار أعضاء مؤتمر لندن من أنَّ جُزءًا واحدًا من ألمانيا، وهو جمهورية ألمانيا الاتِّحادية، قد دُعِيَ للاشتِراك في المؤتمر، في حين رَفضَتْ دعوة الجزء الآخَر من ألمانيا، وهو جمهورية ألمانيا الديمقراطيَّة، وقد نتَج عن هذا التجاهُل للحقوق القانونية لعدد من المشتركين في اتِّفاقية القسطنطينية المبرَمة سنة 1888م من جانب الداعين إلى مؤتمر لندن، أنِ اتَّخذ هذا المؤتمر - لهذا السبب من بين أسباب أخرى - صفة محدودة، فلم يكن المؤتمر ممثِّلاً بما يكفي للبلاد المعنيَّة؛ ولذلك لم تكن قراراته قانونيَّة.
ولقد وضعت اتِّفاقيَّة القسطنطينيَّة المبرَمة سنة 1888م، والتي عالجت عدَّة مسائل خاصَّة بقناة السويس - مبادئَ للملاحة في القَناة ذات أهميَّة دوليَّة وقانونيَّة كبيرة، فبمُقتَضى هذه الاتفاقيَّة تظلُّ القناة مفتوحةً للمِلاحة البحريَّة في زمن السلم وفي زمن الحرب كذلك، وحريَّة الملاحة مكفولةٌ لجميع البلاد التي تستَخدِم القناة، بدون أيِّ تمييزٍ أو استثناء، وتناوَلت الاتِّفاقية كذلك مبادئ حِياد وتجريد منطقة القَناة من السلاح، وهذا يعني أنَّها تمنع تحويل القناة إلى منطقة للعمليَّات الحربيَّة أو إلى قاعدة عسكرية أيًّا كانت، كما أنها تمنع إقامة مُنشَآت عسكريَّة أو مُرابَطة قوَّات مسلحة في منطقة القناة، وتعترف اتفاقيَّة 1888م بحقوق سِيادة الحكومة المصريَّة على القناة، وتوليها مسؤولية ضَمان تنفيذ نصوص الاتفاقيَّة.
وتتَّفق القَرارات المهمَّة المتَّخذة بموجب اتفاقيَّة القسطنطينية مع الصفة الدولية لقناة السويس، ويعني هذا أنَّه يجب أنْ تكون مبادئ هذه الاتِّفاقيَّة هي الأساس لأيِّ اتِّفاق جديد بشأن نظام قناة السويس.
ومع ذلك ففي اتِّفاقيَّة 1888م ثَغراتٌ وعيوبٌ تقلِّل من قيمة نصوصها، وقد اتَّضحت هذه الثغرات والعيوب في أثناء الاحتلال البريطاني لقناة السويس؛ إذ أتاحت الفرصة لبريطانيا لكي تتَّخذ من اتِّفاقيَّة القسطنطينية ستارًا لتصرُّفاتها التي تُملِيها مصالحها الذاتيَّة في قناة السويس.
ومن بين المشكلات والثغرات الخطيرة في اتِّفاقيَّة 1888م خلوُّها من نصوصٍ خاصَّة بعبور السفن التجارية التابعة لبلاد في حالة حرب، وضيق منطقة الحِياد في القناة لا يزيد اتِّساعها عن ثلاثة أميال، وهو اتِّساع لا يكفى لتأمين سَلامة مرور سفن البلاد التجارية.
وتُقلِّل هذه الثغرات من قيمة مبدأ حرية الملاحة المنصوص عليه في الاتِّفاقيَّة، ولكن من الجدير بالذكر أنَّ إنجلترا أصرَّت في مؤتمر باريس على الإبْقاء على هذه النصوص الناقصة، ونظرًا لظروف الاحتلال الإنجليزي ولعدد الاستحكامات العسكرية التي أُقِيمت على ضفَّتي القناة، فقد استَطاعت إنجلترا - في الواقع - أن تُغلِق "بصفة قانونية" القناة؛ أي: أنْ تنتهك بصفة قانونية حريَّة الملاحة.
وقد زادت طريقةُ استخدام القناة فيما بعدُ تلك الحقيقةَ وضوحًا، ففي أثناء سِنِي الحرب العالميَّة الأولى، استولَتْ إنجلترا على سفن أعدائها باعتبارها غَنائم حرب، واستندَتْ في ذلك على "الحق القانوني"، وبلغ عدد السفن التي استَولت عليها خِلال الحرب 50 سفينة ألمانيَّة ونمساويَّة، بل لم تتردَّد إنجلترا في أنْ تخرق الاتِّفاقية خرقًا صريحًا في أثناء الحرب العالميَّة الأولى، وذلك بإنشائها استِحكامات عسكريَّة على ضفَّتي القناة، وقيامها بإغلاق القناة، وحظر الملاحة فيها لفترةٍ من الزمن.
وقد استَفادَتْ إنجلترا من النصوص الناقصة الخاصَّة باستِخدام القناة لأغراضٍ عسكريَّة في الاتِّفاقيَّة، ممَّا قلَّل فعلاً من قيمة مبادئ الحِياد والتجريد من السلاح، إنَّ الاتفاقيَّة تَقضِي بمنْع إنزال القوَّات العسكريَّة والأسلحة والمواد والمعدَّات الحربيَّة في منطقة القناة أو عند مدخلَيْها، ولكنَّها قصَرتْ هذا المنع على زمن الحرب فقط، فتمكَّنت إنجلترا من استكمال وإعداد قوَّاتها العسكرية، وقواعدها الإستراتيجية، ومخازن تموينها في منطقة القناة، ممَّا كان له أهميَّةٌ كبيرة للإنجليز، وإنَّ حشد قوات عسكريَّة كبيرة، وإقامة قواعد قويَّة في وقت السلم - أتاحَ لإنجلترا أنْ تُحافِظ على سَيْطرتها على منطقة القناة، وأعطاها مَزايا على العدوِّ في حالة الحرب، كما أتاحَ لها أنْ تستخدم القناة لأغراض عدوانيَّة حتى في الحالات التي لم تشتَرِك في أثنائها في نِزاعٍ مسلَّح، وتشهد على ذلك طريقة استخدام إنجلترا للقناة في عام 1898م خِلال الحرب الإسبانية-الأمريكية؛ إذ فشِلت السفن الحربية الإسبانية في الوصول إلى وجهتها في الوقت المناسب؛ وذلك بسبب أنَّ إنجلترا عطَّلت - بالتواطؤ مع شركة القناة - تزويدَ تلك السفن بالوقود، وقد وقَع حادثٌ مماثل لذلك خِلال الحرب الروسية اليابانية سنة 1905م، فمع أنها كانت رسميًّا في حالة سَلام، إلا أنها كانت تُحابِي حليفتها اليابان، وتمنع تموين السفن الروسيَّة بالوقود، وقد اضطرَّت سفن الأسطول الروسي بقيادة رجستفنسكي إلى تجنُّب الملاحة عبرَ قناة السويس؛ أي: تجنُّب الطريق القصير الموصل إلى الشرق الأقصى، والتوجُّه بالقوَّة الرئيسة عن طريق ما حول إفريقيا.
وفي الوقت ذاته كان النصُّ الوارد بإحدى موادِّ الاتفاقيَّة، والخاص بعدم جَواز عقد اتِّفاقات دوليَّة خاصَّة بقناة السويس تحلُّ محل الاتفاقيَّة؛ بغية التمتع بأيِّ امتياز أو مزايا خاصة في القناة - يُؤدِّي دورًا ذا أهميَّة خاصَّة بالنسبة لإنجلترا، فنَظَرًا إلى الوضع المتميِّز الذي كانت تتمتَّع به إنجلترا في منطقة القناة منذ سنة 1882م، فإنَّ ذلك النصَّ لم يترك أيَّ مجالٍ لاحترام مبدأ المساواة؛ إذ أعطى النص المذكور صفة قانونيَّة فعليَّة للوَضْعِ الذي كان قائمًا بالفعل في مصر في تلك الفترة، وهي التي اشتهرت في التاريخ السياسي بالتعبير المعروف وهو: "الخديوي يملك، وإنجلترا تحكُم"، وهذا بالإضافة إلى أنَّ ذلك النصَّ كان يُعطِي إنجلترا ضمانًا بعدم إبرام اتِّفاقات خاصَّة بالقناة بين الدول الأخرى، وكان يُطلق لها الحرية ويعطيها الصدارة في مجال النَّهب والسَّلب الاستعماري في مصر.
وأخيرًا: فقد كان هذا النص يُعطِي صفةً قانونيَّةً لأعمال السلب والنهب التي كانت تقوم بها شركة قناة السويس، وبعبارةٍ أخرى: فقد أدَّى هذا النصُّ إلى إسباغ صفةٍ قانونيَّةٍ على استِغلال القناة بواسطة عددٍ محدود من المساهمين؛ بغيةَ تحقيق أرباح ضَخمة، حُرِمتْ منها مصر صاحبة القناة، كما حُرِمت منها الدول الأخرى غير الممثلة في الشركة، بل إنَّ هذا النص وُضِعَ لتسهيل إثرائهم على حساب مصر، وعن طريق إهدار حقوق الدول الأخرى ومصالحها، وقد تلاقتْ مصالح المتنافسين من الاحتكاريين الإنجليز والفرنسيين المالكين لأكبر نسبةٍ من أسهُم شركة القناة في تلك المسألة، وكان هؤلاء يُوجِّهون اهتمامهم إلى مصالحهم الذاتيَّة، لا إلى نصوص الاتفاقيَّة التي كانت تنتهكها شركة القناة، ولا بُدَّ من الاعتراف بأنَّ ممثِّلي الرأسمال الاحتكاري كانوا منطقيِّين مع أنفسهم في هذه المسألة، فإنَّ موضوع النشاط الحقيقي لشركة القناة لم يُثَرْ طوال مائة السَّنة التي انقَضتْ من إنشاء الشركة إلى يوم التأميم، ولم يَبْقَ لممثِّلي الرأسمال الاحتكاري - بعد تأميم القناة - إلاَّ التظاهُر بمظهر "المعتدى عليهم".
وكذلك كانت إنجلترا منطقيَّة مع نفسها، فقد استَفادتْ من مَكانة السيطرة التي كانت تتمتَّع بها في مصر، لتجنُّب ذلك النص المقيد، وسعت في كلِّ مناسبة سانحة إلى توطيد مركزها في قناة السويس، وقد تَمَّ لها ذلك لأوَّل مرَّة بمناسبة إبرام معاهدة فرساي سنة 1919م.
فبمُقتَضى معاهدة فرساي استولَتْ إنجلترا على حُقوق السيادة التي كانت تتمتَّع بها الدولة العثمانيَّة في قناة السويس، مستندةً في ذلك إلى حقِّ الوراثة، وهو الحق الذي جرَّد مبدأ المساواة من كلِّ معنى.
وتكرَّر هذا الحادث سنة 1936م، فقد فرَضتْ إنجلترا - وهي مستندة إلى قوة جيوشها - اتِّفاقية دوليَّة على مصر فيها إذلالٌ للأخيرة، وقد أسبغَتْ هذه الاتفاقيَّة صفة قانونيَّة على الحقوق الخاصَّة والمتميِّزة لإنجلترا في منطقة القناة، وبذلك قضَتْ على آخِر وهمٍ من أوهام مبدأ المساواة المنصوص عليه في اتِّفاقيَّة القسطنطينيَّة.
أمَّا قناة السويس في الحرب العالمية الثانية 1939- 1945م في تلك الحِقبة، فكانت هُناك ثلاثة مراكز كلٌّ منها يتميَّز عن الآخر، وهي: مركز مصر، ومركز بريطانيا، ومركز الشركة المصرية المساهمة، التي كانت تُسمَّى شركة قناة السويس.
أمَّا مصر، فقد رأتْ عند قيام الحرب أنْ تقف رسميًّا على الحِياد، وإنْ كان حِيادًا مُشوَّهًا؛ بسبب سَيْطرة إنجلترا وحُلَفائها على مقادير البلاد المصريَّة في تلك الأثناء، ولم تعلن الحرب على ألمانيا وحُلَفائها إلا في نهاية الحرب، وبعد أن تكشف نتائجها المباشرة في سنة 1945م، وكان رئيس الوزارة المصريَّة الدكتور أحمد ماهر - الذي راح ضحيَّة هذا الإعلان - يظنُّ أنَّه نفَّذ سياسة دعا إليها منذ قِيام الحرب في سبتمبر سنة 1939م، وكان مُسرِفًا في حُسن الظنِّ بِحُلَفاء الغرب.
وبالنسبة للملاحة في قَناة السويس، كانت مصر توَّاقة لتطبيق أحكام مُعاهَدة القسطنطينيَّة في 29 أكتوبر سنة 1888م، ولكنَّ يد الحكومة المصريَّة كانت مغلولةً بالقيود التي نصَّت عليها المعاهَدة التي أُبرِمت بينها وبين بريطانيا وفُرِضت عليها فرضًا، وهي مسلوبة الإرادة في 26 أغسطس سنة 1936م.
وأمَّا عن مركز بريطانيا، فإنها قد ألقَتْ بثقلها كاملاً على القناة، وجعلتها خطًّا من خُطوط النار البريطانية، وتعسفت في تفسير معاهدة 26 أغسطس، وسخَّرت إمكانيات مصر كلها لتحقيق مآرِبها، وأعطت للقوَّات التي استقدمَتْها وحشدَتْها على ضفتي القناة - تلك القوات التي جاءت بها من مستعمراتها ومن بلاد حُلَفائها - كل المزايا التي ظفرت بها لقوَّاتها المغتصبة، وداستْ معاهدة القسطنطينيَّة لسنة 1888م، ووقفت مدرَّعاتها وقطع أسطولها بمجرى القناة نفسها، وخلقت ألوانًا من الرقابة التي فرضَتْها على سفن المُحايِدين أنفسهم، وقامت بعمليَّات التفتيش، وأذعنت الدول المحايدة للتفتيش البريطاني.
وأمَّا الشركة، فكان يجب عليها أن تتلقَّى التعليمات والأوامر من سيِّدتها مصر، من الحكومة المصريَّة مانحة الالتزام، ولكنها كأداة استعماريَّة تجاهَلت الحكومة المصريَّة واحتمت ببريطانيا بل الاستعمار الغربي كله، وقد فضحت تصرُّفاتها غير المشروعة في تقرير مجلس إدارتها الذي أُلقِي في اجتماع الجمعية العمومية للمساهمين في باريس في 18 ديسمبر سنة 1945م.
وفي هذا التقرير اعترفت الشركة صراحةً بامتهان حياد القناة، هذا الاعتراف الذي ورَد على لسان "شارل رو"، والعجيب أنَّ الشركة وهي صنيعةٌ لبريطانيا قلَّدت هذه الأخيرة، فراحَتْ تلتمس العذر وتُحاوِل تبريرَ مسلكها بمعاهدة 26 أغسطس سنة 1936م...!!