آن الأوان للتحرر من فكرة الحيوانات "المكروهة"... كيف دخل "التدنيس" إلى ثقافات الشعوب وأديانها؟
منوعات | رصيف 22
الثلاثاء ٣ ابريل ٢٠١٨
حظيت فكرتا التدنيس والتطهير، بنوع من أنواع الاهتمام والاعتناء في ثقافات الشعوب القديمة، ضمن الميل السائد لتحليل الوجود ضمن ثنائيات: الخير والشر؛ النور والظلمة؛ الأبدية والفناء؛ إلخ.
ذلك التقسيم البدائي للتدنيس والتطهير، سرعان ما اتخذ مع ظهور الأديان، صفة روحية غيبية.
ولما كانت الحيوانات، من أكثر عناصر الطبيعة وفرة واختلاطاً بالإنسان في المحيط المجتمعي والبيئي، فسرعان ما تمّ تضمينها في أحكام وتوصيفات، تميل إلى الرمزية والإسقاط.
يتناول المقال ثلاثة حيوانات ذات حضور قوي وكثيف في ثقافات وأديان منطقة الشرق الأدنى، وهي الخنزير، والوزغ، والبرص.
كيف ساهمت الأساطير والقصص القديمة في إضفاء صفة الكراهة والتدنيس عليها، وكيف تسللت تلك الصفات إلى المخيلات الدينية؟
الخنزير: رمز الشهر والهمجية، عدو حورس وقاتل تموز
كان الخنزير من أكثر الحيوانات التي استحوذت على قدر كبير من الكراهية والنفور، وسط شعوب منطقة الشرق الأدنى، قديماً وحديثاً.
بدأت كراهة لحم الخنزير، والنظر إليه على كونه حيوان نجس قذر، منذ وقت مغرق في القدم، ومن اللافت للنظر، أن العديد من الأساطير المصرية والبابلية والكنعانية والفينيقية، قد صورت الخنزير على كونه ممثلاً للشر والهمجية والاندفاع والبطش.
عند المصريين القدماء، كان الإله ست إله الصحراء والعواصف، الذي يحمل وجه يشبه وجه الخنزير البري، يمثل الجانب الشرير إبان مرحلة صراعه مع أوزيريس وابنه حورس.
أما في الأساطير البابلية، فيظهر الخنزير البري في موقع الاتهام مرة أخرى، عندما يقتل الراعي الشاب تموز، فتنزل زوجته عشتار إلى العالم السفلي لتعيد إحياءه من جديد، في قصة شهيرة استمر الاحتفال بها، والبكاء على أطلالها عبر القرون المتتالية.
في العهد القديم، يتحدث سفر اللاويين بوضوح عن الحيوانات التي يُحرم تناول لحومها، فيذكر من بينها الخنزير، ويتم تبرير ذلك لكونه من الحيوانات التي لا تجتر.
أما في المسيحية، فتختلف النظرة إلى الخنزير، حيث لا يوجد أمر صريح أو مباشر بالامتناع عن أكله، ويتفق ذلك مع ما ورد في إنجيل متى، من أنه "لیس ما یدخل الفم ینجّس الإنسان، بل ما یخرج من الفم ینجّس الإنسان".
ومن هنا فإنه من الشائع في الأوساط المسيحية -ولا سيما الغربية منها- تناول لحوم الخنازير.
ولكن توجد نظرة أخرى ترى أن كراهة الخنزير مستمرة أيضاً في المسيحية، وذلك لكون رسالة المسيح لا تعدو على أن تكون رسالة متممة ومكملة لرسالة العهد القديم، وذلك بحسب ما قاله يسوع نفسه في إنجيل متى "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل".
في الإسلام، تكررت الأوامر الإلهية بتحريم لحم الخنزير في مواضع شتى من القرآن الكريم، وذلك في سور البقرة والمائدة والأنعام والنحل، كما تواترت بأخبار ذلك التحريم العديد من الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين.
وقد جعلت الثقافة الإسلامية، من قتل الخنزير وإراقة دمه إحدى العلامات التي تدل على إقتراب الساعة، حيث ورد في صحيح البخاري، أن الرسول قد أخبر أصحابه بأن نزول عيسى بن مريم، وكسره للصليب، وقتله للخنزير، سوف تكون من العلامات الدالة على نهاية الزمان.
رغم تواتر حرمة أكل لحم الخنزير بين المسلمين، إلا أنه لا يوجد رأي محدد يفسر سبب تلك الحرمة
حيث ذهب البعض لكون الخنزير يأكل الفضلات والأوساخ، كما أن البعض الأخر اعتقد بأن الخنزير ينقل الأمراض المعدية والخطيرة.
بينما حاولت العقلية الشعبية تبرير تلك الحرمة بسبب أخر، فقالت بأن أكل لحم الخنزير يصيب الرجال بالدياثة، فيذهب بغيرتهم على أزواجهم.
أما في العقل الشيعي الإمامي، فقد وردت أسباب أخرى لتحريم أكل لحم الخنزير، وأهمها على الإطلاق، ما ورد في كتاب علل الشرائع لمحمد بن علي بن بابويه القمي، المعروف بالشيخ الصدوق والمتوفى 381هـ، من كون الخنزير هو أحد الحيوانات الممسوخة، مثله في ذلك مثل الأرنب والقرد والفيل.
أقوال جاهزة
العديد من الأساطير المصرية والبابلية والكنعانية والفينيقية، قد صورت الخنزير على كونه ممثلاً للشر
تدنيس الوزغ في الإسلام، قد يكون انعكاساً لمفاهيم شعبية تخيلية سائدة، وجدت سبيلاً لها في المدونات الحديثية المقدسة
تبرئة لحيوانات ظلمتها الثقافة الشعبية ونبذها الدين
الوزغ: رمز الذكورة المحرمة الذي اجمعت ثقافات المنطقة على كراهته
بحسب ما ورد في قاموس الأنثروبولوجيا، لمؤلفه شاكر مصطفى سليم، فإن الأوزاغ والسحالي كانت ذات حضور مؤثر في ثقافة الشعوب البدائية، حيث قدسته بعض الأقوام، بينما نظرت له أقوام أخرى على كونه جسماً تحل فيه روح الأسلاف الغابرين.
وكان أيضاً مرتبطاً بشكل وثيق بأعمال السحر والقوى الخارقة.
إذا ما رجعنا لحضارات الشرق الأدنى القديم، وبالخصوص تلك التي ظهرت في بلاد الرافدين، لوجدنا أن الوزغ كان يُنظر إليه على كونه نذير للشؤم والتطير.
كما ذاعت بعض الأساطير والخرافات التي تعتقد بأنه رجل اعتاد أن يتجسس على النساء العاريات، حتى تم عقابه بأن مُسخ في صورة هذا الحيوان المثير للاشمئزاز.
في العقل الإسلامي، استمرت النظرة الكارهة للوزغ محافظة على مكانتها، حيث وردت العديد من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول الكريم، التي تدعو إلى المبادرة لقتل الأوزاغ، وبررت ذلك بكون السلف الأول لذلك الحيوان، قد عمل على نفخ الهواء في النار التي أُلقي فيها النبي إبراهيم.
فكان الحيوان الوحيد الذي اشترك مع الكفار والمشركين في جريمتهم، بينما عملت جميع الحيوانات الأخرى على إخماد تلك النار.
ومن اللافت للنظر، أن قصة نفخ الوزغ في نار إبراهيم، لم ترد في أي من الكتب المقدسة السابقة للإسلام، كما أنها لم ترد أيضاً في القرآن الكريم، مما قد يعطي انطباعاً على كون تلك القصة مجرد انعكاس لمفاهيم شعبية تخيلية سائدة، وجدت سبيلاً لها في المدونات الحديثية الإسلامية المقدسة.
هل يمكن فهم تدنيس الوزغ، ذلك المخلوق الصغير، على خلفية اعتباره أحد الرموز القضيبية؟
في العقل الشيعي الإمامي أيضاً، يستمر التعامل مع الوزغ على أنّه حيوان نجس مكروه، وإن تم تبرير تلك النظرة بعدد من الأقوال التي تتماشى مع ثوابت ومبادئ المذهب الشيعي نفسه، والتي تتوجه أغلبيتها في طريق الخصومة السياسية والمذهبية لأعداء آل البيت.
ففي كتاب الكافي الشريف الذي صنفه محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 329هـ، ترد روايتان بخصوص كراهة الوزغ، الأولى يذكر فيها عبد الله بن طلحة، أنه لما سأل الإمام جعفر الصادق عن الوزغ، فإنه قد رد عليه قائلاً "هو رجس ومسخ، فإذا قتلته فاغتسل".
كل تلك الأقوال المتعددة التي أجمعت على كراهة ذلك المخلوق الصغير، تثير تساؤلاً عن أصل تلك الكراهة، خصوصاً وأن العديد من الحيوانات والحشرات الأكثر ضرراً وخطورة، لم تحظ بالكراهة نفسها في ثقافات شعوب المنطقة.
وفي محاولة للرد على هذا السؤال، يطرح أحد الباحثين -معتمداً على مبادئ التحليل النفسي عند فرويد-فرضية تعتقد بأن النفور من الوزغ، يرتبط بشكل أساس بمعتقدات طوطمية بدائية، تلك التي تعتبر أن ذلك الحيوان يرمز للذكورة المحرمة.
فالوزغ هنا يمثل أحد أشكال الفالوس (الرموز القضيبية)، وهي تلك التي يظهر فيها التلهف على ممارسة الخطيئة والتسلل إلى مخادع النساء والتلصص عليهن، ومن ثم فقد ساد الاعتقاد بضرورة الاغتسال بعد قتله، للتطهر من دناسته وموبقاته.
الثعبان: رمز الموت والحياة الذي تسبب في شقاء بني أدم، وتتلبسه الجن والشياطين
مما لا شك فيه، أن الثعبان كان من أعظم الحيوانات التي مثلت بشكلها المخيف وبطبيعتها المثيرة للذعر والرعب، حضوراً دائماً في الوعي الجمعي لشعوب الشرق الأدنى القديم.
في مصر، عُرفت الإلهة وادجت حامية مصر السفلى، والتي كانت تصور في العادة، في شكل ثعبان الكوبرا المصرية، وتحكي الأساطير المصرية أن تلك الحية العظيمة قد تكونت من جمع الأجزاء المتشظية من جراء تحطيم الإله ست لعين الإله المنتقم حورس.
وهو ما يعبر عن نظرة المصريين القدامى للثعبان، وهي نظرة تقديسية تختلط فيها مشاعر الاحترام والمهابة والخوف.
في العهد القديم، يتم ذكر الثعابين والحيات في العديد من المواضع، وأهمها على الإطلاق، ما ورد في سفر التكوين، عند ذكر قصة خروج أدم وحواء من الجنة ونزولهما على الأرض.
حيث يذكر السفر أن إبليس قد تلبس في شكل الحية، وقام بإغواء حواء وحرضها على الأكل من الشجرة المحرمة، فقال لها:
"لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر".
ثم يتحول الخطاب التوراتي إلى تبيان عقاب الحية "لأنك فعلت هذا، ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وتراباً تأكلين كل أيام حياتك".
وفيما يعتبر ترسيماً للعداوة الأبدية ما بين الثعبان والإنسان، يستمر يهوه قائلاً "وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه".
ومن هنا فإنه قد جرى تحميل الحية في الدين اليهودي، دوراً هائلاً في قصة الخطيئة الأولى، وفي المسؤولية عن خروج البشر من الجنة، وتحملهم المشقة والكد على الأرض، وهو الأمر الذي استمر مطبقاً بشكل كبير في العقيدة المسيحية، وإنْ حمل دلالات أكثر رمزية.
العهد القديم أيضاً، يقوم باستدعاء رمزية الثعبان كأحد مظاهر العقاب الإلهي الذي يطبقه يهوه على شعبه في حالة مخالفتهم لأوامره، فبعد أن دخل بني إسرائيل في البرية والتيه، أعلنوا عن تذمرهم وسخطهم، وقالوا لماذا أخرجنا الله وموسى من مصر إلى تلك الأرض القاحلة.
ويذكر الإصحاح الحادي والعشرون من سفر العدد "فأرسل الرب على الشعب الحيات المحرقة، فلدغت الشعب، فمات قوم كثيرون من إسرائيل".
ولكن، ولكون الثعبان قد ارتبط في اللاوعي الجمعي للبشرية بفكرتي الموت والحياة معاً، ولكون سم الأفعى القاتل لا يُشفى إلا بالترياق المأخوذ من الأفعى، فإن سفر العدد يجعل من الحية نفسها سبيلاً للنجاة.
فعندما ندم بنو إسرائيل عن فعلهم، وذهبوا إلى موسى طالبين للعفو والمغفرة، فإن يهوه خاطب نبيه قائلاً "اصنع لك حية محرقة وضعها على راية، فكل من لدغ ونظر إليها يحيا".
وقد بقي ذلك التمثال الذي صنعه موسى ذو دلالة مهمة في التاريخ، حتى تم عبادته في القرون التالية، إلى الحد الذي جعل النبي حزقيا يقوم بتحطيمه تماماً، كما يذكر سفر الملوك الثاني.
في الثقافة الإسلامية، لم يعط السياق القرآني، للحية أي دور في خروج أدم من الجنة، ولكن مع ذلك، فقد استمرت الثعابين محافظة على رمزيتها القوية، فقد ساد الاعتقاد بأن الجن والشياطين يظهرون في صورة الثعابين في بعض الأحيان.
فيذكر، مثلاً، أبو داود في مسنده، أن الرسول قد قال لبعض أصحابه:
"إن الهوام من الجن، فمن رأى في بيته شيئاً فليحرج عليه ثلاث مرات، فإن عاد فليقتله فإنه شيطان".
كما ورد ذكر بعض أنواع الثعابين المخيفة، كالشجاع الأقرع، في معرض التخويف من عذاب الأخرة في بعض الأحاديث، منها ما روي في البخاري ومسلم، من قول الرسول "يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعاً أقرع".
ومنها ما ورد في كتب أخرى، عن تعذيب الشجاع الأقرع للميت الذي لم يقم بأداء فريضة الصلاة في حياته أو تقاعس عنها.
وقد استمر حضور الحية أيضاً في بعض المواقف التاريخية المهمة في التاريخ الإسلامي. ومنها أنه أثناء اختباء الرسول وأبي بكر في غار ثور، خرجت إحدى الحيات من فتحة صغيرة ولدغت أبا بكر.
ورغم أن تلك الرواية من الروايات الضعيفة التي فندها الكثير من علماء الحديث المسلمين، إلا أنها شاعت وذاعت بينهم قديماً وحديثاً، في دلالة قوية تعبر عن وجهة النظر السلبية الشائعة تجاه ذلك الحيوان الزاحف، الذي تسبب شكله الملتوي وحركته السريعة الخاطفة في حمل الرعب دائماً للإنسان.