رهبان ابو مقار يكشفون عن ورقة بحثية لتصحيح مسار الرهبنة
نادر شكري
الجمعة ١٧ اغسطس ٢٠١٨
الورقة تحذر من انتفاح الرهبان على العالم وضرورة تشديد اختبارات طالبى الرهبنة
نادر شكرى
قدم رهبان دير أبو مقار ورقة عمل لكشف المشكلات التى أصابت الرهبة القبطية وكيفية علاجه تحت عنوان الواقع والأمل وقامت بنشرها مجلة مرقس التى تصدر شهريا عن دير أبو مقار وسبق نشرها فى اعداد قديمة
مقدمة:
الرهبنة هي قلب الكنيسة النابض، فإذا صحَّ القلب صحَّت الكنيسة كلُّها، وإذا اعتلَّ القلب اعتلَّت الكنيسة كلُّها.
الواقع الحالي:
الرهبنة في هذه الأيام ضعفت أهم خصائصها، وهي نذورها الثلاثة الرئيسية المعروفة: الطاعة، والفقر، والبتولية. فاهتزَّت أعمدتها، وأضحت الطاعة فيها طاعة لأهواء الذات، والفقر مظهراً لاستدرار عطف الأغنياء، والبتولية ثوباً ممزَّقاً يكشف كلوم المجروحين بسهام الشهوة.
لعلل الأساسية وراء الواقع المرير للرهبنة حالياً:
هناك عوامل شتَّى تضافرت معاً مُسبِّبة ذلك الواقع المرير، ولكن وراء كل تلك الأسباب سببان رئيسيان جوهريان تنبثق منهما كل تلك العوامل، وهما:
أولاً: انفتاح الأديرة على العالم.
ثانياً: عدم التدقيق في اختيار مَن يتقدَّم للرهبنة.
أولاً: انفتاح الأديرة على العالم:
انفتاح الأديرة على العالم بمختلف الطرق وشتَّى الأساليب، بدءاً من فَتْح بوَّابات الأديرة للزائرين، وانتهاءً بالموبايل والنّت والدِّش. وقد أثَّر ذلك على الرهبنة والرهبان بالسَّلْب كما يظهر مما نُعايشه من واقعٍ أليم. وكان من نتائج انفتاح الأديرة على العالم:
نسيان الراهب للهدف الذي من أجله خرج:
فبانفتاح الأديرة على العالم توغَّل العلمانيون في أعماق الأديرة، حاملين معهم همومهم ومشاكلهم، وشاركهم الرهبان وجدانيّاً – وأحياناً كثيرة عملياً – في حَمْل كل هذه المشاكل وحلِّها. ونسوا أنفسهم وسط تلك الدوامة التي تبدو في ظاهرها عطفاً ورحمةً، ولكنها في الحقيقة تحوير لدور الرهبان إزاء العالم، وهو الصلاة من أجل العالم كله بهمومه وأحزانه، هذه هي مشاركة الرهبنة الفعَّالة في هموم الجسد الواحد. ولنضع أمامنا مَثَلَ الأنبا بولا الذي لَمَّا رأى أنبا أنطونيوس، سأله عن أحوال العالم، وعن مياه النيل، دون أن يعرف أو يهتم بواحد مُعيَّن من أهل العالم يسأل عنه وعن مشاكله ويُتابع حل المشكلة!!
تغلغُل شهوة الكهنوت بين الرهبان:
وكان أيضاً من نتائج انتشار العلمانيين بين أروقة الأديرة، أن اشتهى الرهبان الكهنوت، حتى يستطيعوا إقامة القدَّاسات، وأَخْذ الاعترافات، والرشم بالزيت، والتعميد، وعَقْد الخطوبات والأكاليل، والصلاة في الجنازات… إلخ؛ في حين أنَّ الكهنوت هو خاص بالخدمة ولا يمتُّ للرهبنة بصِلة. فالكاهن هو الشخص الذي تَعْهَد إليه الكنيسة برعاية شعب وله رعية يرعاها، أما الراهب فلا خدمة له ولا شعب ليرعاه – إلاَّ إذا دَعَته الكنيسة إلى ذلك – فلماذا يُطالِب الرهبان بالكهنوت؟ أليس هذا حَيَداناً عن الطريق؟ ألم يكن الرهبان في عهد الأنبا باخوميوس بالآلاف في الصحراء، وكانوا يُحضِرون لهم كاهناً من القرية المجاورة كي يُصلِّي لهم قدَّاس الأحد؟ لأن أنبا باخوميوس لم يُدخِل الكهنوت إلى رهبنته، بل إنه هو نفسه عند حضور البابا أثناسيوس لزيارة الأديرة الباخومية في صعيد مصر هرب لئلا يُسام كاهناً. وقد مدحه البابا أثناسيوس قائلاً لأبنائه:
[عظيمٌ هو أبوكم، قولوا له: لقد هربتَ من ذاك الذي يقود للغيرة والحسد والتطاحُن، فاختبأت عنَّا لأنك اخترتَ لنفسك ما هو أفضل وهو الاحتماء في الرب يسوع. وبما أنك هربتَ من المجد الباطل والعظمة الزائلة، فإنني أطلب من الله أن يحفظك من كليهما. وقولوا له: إن الأمر الذي هربتَ لأجله لن يحدث].
وأنبا أنطونيوس نفسه مؤسِّس الرهبنة والعمود المنير الذي نسير على هَدْي نوره، لم يكن كاهناً؟! وكذلك مكسيموس ودوماديوس لم يكونا كاهنَيْن. أما أنبا مقار فإنه وإنْ كان قد رُسِمَ كاهناً رغماً عنه وهو بعد علمانيٌّ، إلاَّ أنه لم يؤْثِر أن يتقلَّد هذه الرتبة على حدِّ قوله، ففرَّ هارباً إلى مكانٍ آخر؛ وبعد الرهبنة كان يسير أميالاً من الإسقيط ليحضر القدَّاس الإلهي يوم الأحد في نتريا. وأنبا أرسانيوس مُعلِّم أولاد الملوك أيضاً لم يكن كاهناً، بل كان دائماً ما يُذكِّر نفسه بدعوته قائلاً: ”أرساني، أرساني، تأمَّل فيما خرجت من أجله“.
انفراط عقد حياة الشركة المجمعية في الأديرة:
أما الأَثر الثالث لانفتاح الأديرة على العالم، فهو اتجاه الرهبان لبناء القلالي والمضايف الخارجية بعيداً عن أنظار مجمع الدير. ولا نُنكر أن فيهم بعض مُحبِّي الوحدة، ولكن آخرين يستقبلون فيها مَن يُريدون بلا ضابط. وفي تلك القلالي المنعزلة ينفرد الشيطان بالراهب ليفعل به ما يريد دون رقيب أيضاً. ولا مُعين لذلك الراهب المسكين الذي ربما يَصل به الأمر إلى أن يخدعه الشيطان بأنَّ له مواهب شفاء المرضى وإخراج الشياطين، ويقوده الشيطان كما يُقاد الأعمى إلى هاوية مُخيفة مُرعبة! وربما يبدأ الراهب ببناء كنيسة خاصة به هناك، يستقبل فيها الرحلات ليُقيم لهم فيها القدَّاسات، راسماً على وجهه علامات المتوحِّد، منتحلاً لمظهر الناسك الزاهد المنقطع عن العالم، كي يستدرَّ عطف الناس، ويستدرَّ أيضاً أموالهم؛ خادعاً إيَّاهم، بل وربما خادعاً نفسه أيضاً، أو مخدوعاً من الشيطان. وكان حَرِيّاً به أن يسأل نفسه: إذا كان بالفعل متوحِّداً قد هجر العالم، فلماذا يستقبل العالم في قلايته؟! ونتيجة لذلك: فَقَدَ الرهبان وحدتهم المجمعية، وقلبهم الواحد.
ونتمنَّى أن يكون هناك القدَّاس الواحد الذي يجمع الرهبان كلهم ليُصلُّوا معاً في وحدة تجتذب أنظار سكان السماء، ومائدة المحبة الواحدة التي يجتمع فيها الرهبان باسم المسيح.
أليست الوحدة على المستوى الصغير في الأديرة، وعلى المستوى الأوسع في الكنيسة عامةً، هي ما يجعل العالم يؤمن بالمسيح، بحسب قول رب المجد: «ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يو 17: 21).
تسرُّب محبة المال إلى قلب الراهب:
ولاحتياج الراهب للمزيد من الأموال كي يصرفها في خدمة الذين تعرَّف عليهم ويقصدونه، أصبح بعض الرهبان يأخذون ريع المشروع القائمين عليه في الدير، ليعطوا الدير جزءاً منه، والباقي لا يَعْلَم عنه أحدٌ شيئاً. وربما يصل بهم الأمر إلى إقامة مشاريعهم الخاصة دون استئذانٍ من أحد. وفي هذا يُسْكِت الشيطان ضمائرهم، بأنهم يصرفون تلك الأموال على المساكين والمرضى، ولحلِّ مشكلات الناس، ولا يأخذون شيئاً لأنفسهم.
ويا ليت الأمر يتوقَّف عند هذا الحدِّ، بل إن الراهب المسكين يتجاسر فيقبل صدقات العلمانيين وعطاياهم ويأخذها لنفسه. والنتيجة المؤسفة أنْ: أصبح لدينا رهبان أغنياء يملكون سيارات على أحدث موديل، وموبايل فون على أحدث طراز، ويرتدون أفخر الجلاليب والملابس، ويُعظِّمون معيشتهم، ويفقدون فقرهم الذي اختاروه ونذروه يوماً، كأول نذور الرهبنة. كل هذا من أموال الصَّدَقة، متناسين قول الأب زينون في بستان الرهبان: ”إنَّ الراهب الذي يأخذ صَدَقَة، سوف يُعطي عنها جواباً“، والقديس يوحنا القصير الذي لَمَّا رأى أخاً يضحك وهو يأكل، تنهَّد وقال: إنه كان عليه أن يبكي، لأنه يأكل من مال الصَّدَقَة! إننا نسألكم: ماذا نفعل والخمير قارَب أن يُخمِّر العجين كله؟!
طواف الرهبان في شوارع العالم، وطَرْقُهم أبواب البيوت:
وكان من أَثر الانفتاح على العالم أيضاً، أن تَعَوَّد الرهبان على العلمانيين، وزالت الكُلْفَة بينهم؛ فأَلِفوا النزول للمدن، يزورون معارفهم في منازلهم ومحلاَّتهم، ويذهبون لتأدية واجبات العزاء لهم أو المشاركة في أفراحهم، ويبيتون خارج الدير أياماً دون عِلْم المسئولين أو بحجة العلاج، مع معرفة الكل بأنَّ الحال ليس كذلك.
ومع ذلك الحال الذي لا يُرضي أحداً، فإذا تعرَّض أولئك الرهبان لأيِّ نقد من المسئول في الدير أو محاولة لتقويم السيرة؛ لن يكون ردُّ فعلهم إلاَّ كَسْراً لنِير الطاعة، الذي هو نذرهم الثاني. وليحفظ الله رهباننا جميعاً من هُوَّة كَسْر النذر الثالث أَلا وهو نذر البتولية!
ثانياً: عدم التدقيق في اختيار مَن يتقدَّم للرهبنة:
وهؤلاء يمكن تقسيمهم إلى فئاتٍ ثلاث:
فئة غير المدعوِّين:
وهؤلاء هم الذين أخطأوا الطريق عن جهلٍ وعدم دراية بدعوتهم الحقيقية، فظنُّوا أنَّ دعوتهم في الدير، وما هذه بدعوتهم أبداً. وهذه الفئة منوطٌ بالدير أن يكتشفها ويُوجِّهها إلى دعوتها، وهي فئة يسهل اكتشافها لِمَن له بعض الإفراز.
فئة صغيري النفوس:
وهؤلاء هم الذين فشلوا في أيٍّ من مَنَاحي حياتهم: سواء كانت الاجتماعية أو النفسية أو الدراسية أو المادية أو العاطفية؛ ومِنْ ثمَّ تصغر نفوسهم، فيلجأون إلى الأديرة هرباً من واقعهم المرير، عسى أن يجدوا في الدير ما يُعوِّضهم عن حياتهم البائسة.
فئة المنتفعين:
وهؤلاء هم الذين يدخلون الرهبنة، لا حُبّاً في المسيح، ولا طلباً للتفرُّغ للصلاة والعبادة؛ بل طمعاً في أمجادٍ وكراماتٍ ومناصبَ عالمية. وهذه الفئة من أصعب الفئات في اكتشافها وتشخيصها، إذ أنَّ أصحابها يُتقنون فن التمثيل والرياء.
( هذا هو واقعنا وآلامنا ومعاناتنا في هذه الأيام، ولكن مع اشتداد ظلمة الليل الحالكة السواد، نأمل ببزوغ نورِ فجرٍ جديد، في عودة الرهبنة إلى أصالتها الأولى، أصالة رهبنة أنبا أنطونيوس وأنبا بولا وأنبا مقار وأنبا بيشوي وأنبا يوحنا القصير، وإلى تنقية ذلك الناردين الفاخر الذي صنعه يوماً آباء الرهبنة الأُوَلُ، وتصفيته مِمَّا دسَّه فيه الزمن والشياطين من شوائب وأدناس، لتعود الرهبنة إلى مجدها التليد، جاذبةً العالم إلى المسيح بعَبَق رائحتها الزكية.
ما نأمله:
ركيزتان للإصلاح المنشود
أولاً: تقنين زيارات العلمانيين إلى الأديرة:
على سبيل المثال: إغلاق الأديرة في جميع فترات الأصوام على مدار السنة، وتحديد أيام معينة في الأسبوع يُسمَح فيها بدخول الزوَّار، في حدود ساعات مُعيَّنة وأعداد محددة، وبعلمٍ سابق، ويكون مسئولاً عنهم طوال فترة تواجدهم بالدير أحدُ الرهبان المشهود له بالأمانة للطريق الرهباني ليشرح لهم معالم الدير، ويُعطيهم كلمة روحية، ثم يُشرف على ضيافتهم، حتى لا ينتشروا في أروقة الدير مُفسدين على الرهبان هدوءهم.
ثانياً: التدقيق الشديد في اختيار طالبي الرهبنة:
أ – من جهة المُتقدِّم للرهبنة:
يُقدَّم للمتقدِّم للرهبنة قائمة المبادئ الرهبانية التي سيلتزم بها إلى آخر أيام حياته، لكي يكون على بيِّنة من أمره، وكإقتراح أَوَّلي لهذه القائمة نُقدِّم ما يلي:
أن يَرضَى أن يعيش راهباً طوال أيام حياته، دون أن يُطالِب بأيَّة درجة كهنوتية، إلاَّ إذا دُعِيَ لهذه الدرجة من رئيس الدير أو الرئاسة الكنسية.
أن لا تكون له أية ملكية شخصية، لأن الدير سيتكفَّل برعايته من جميع النواحي، دون أن يحتاج أن يتعامل مع المال بأية وسيلة.
أن لا يُطالِب بدخول قريب أو صديق له الدير في غير أوقات الزيارة المسموح بها، ولا يُطالِب أن يُقابلهم كأنَّ هذا حقٌّ له.
أن لا ينزل من الدير لأيِّ سببٍ كان، إلاَّ إذا كُلِّف بذلك من رئيس الدير للقيام بأشغال الدير.
ب – من جهة الدير:
وهو ما يختص بالتعامُل مع الثلاث فئات المُتقدِّمة للرهبنة، والتي سبق الحديث عنها:
فئة غير المدعوِّين: وهذه تتطلَّب أن يكون القائم على استقبال طالبي الرهبنة وقبولهم واختبارهم، شيخاً مُجرَّباً حكيماً ذا إفراز، وليس كل مَن طال عمره وشاب شعره، كما أوصى أنبا موسى الأسود في البستان.
فئة صغيري النفوس: أن يتمَّ التحرِّي الدقيق عن الشخص المُتقدِّم للرهبنة، وذلك بالاتصال بآباء اعترافهم وكنائسهم والمحيط الذي كانوا يعيشون فيه.
فئة المنتفعين: وهذه لا حَلَّ لها سوى إفراغ الدعوة الرهبانية من كل ما يُغري من أمجاد وكرامات؛ فإذا عادت الرهبنة موتاً حقيقيّاً عن العالم، فلن تجتذب إليها سوى مُريديها الحقيقيين، الذين لا يبتغون من ورائها شيئاً آخر غيرها.
ج – من جهة كلٍّ من الدير والمُتقدِّم للرهبنة:
كقاعدة عامة لصحة اكتشاف واختيار كل المتقدِّمين للرهبنة، يحسن جداً ألاَّ تَقِلَّ فترة الاختبار عن ثلاث سنوات، مع توافُر إمكانية إخلاء سبيل الأخ طالب الرهبنة في أيِّ وقت خلال هذه الفترة، رحمةً به وبالرهبنة.
خاتمة:
نأمل للرهبنة عَوْداً إلى أصولها الأولى التي نَمَت في الصحراء البعيدة عن العالم ومشاغله، في الأديرة التي تُحْكِمْ إغلاق أبوابها على نفسها، هناك حيث الصلاة الدائمة والقوة الكامنة والانحلال من كل أحد. هناك حيث يوجد الواحد، حيث يوجد العريس في حجاله منتظراً عروسه. هناك حيث نستطيع أن نُلبِّي مطالب دعوتنا المقدسة، ونوفي عهودنا التي قطعناها يوماً على أنفسنا. ملتمسين شفاعة العذراء والدة الإله، ومعونة الأنبا أنطونيوس أبي الرهبان وأنبا مقار وأنبا أرسانيوس وأنبا بيشوي وأنبا موسى الأسود والقدِّيسَيْن الروميَّيْن مكسيموس ودوماديوس، وبركة صلوات أبينا بابا الكنيسة قداسة الأنبا تواضروس الثاني راعي رعاتنا، وسائر مطارنة الكنيسة وأساقفتها، آمين *