بقلم: القس نصيف هارون فلتس
في مفارقة غريبة تعرض لها كل من رئيس مصر الراحل جمال عبد الناصر والرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك.. إلا إننا الرئيس جمال عبد الناصر بعد أحداث النكسة في 1967، التي راح ضحيتها العديد من أبناء هذا الوطن، شهداء الحرب. وبرغم كل التضليل التي انتهجه النظام آنذاك وأعوانه للشعب المصري بنشر أخبار مزيفة عن انتصاراتهم على العدو "إسرائيل". وترويج للأكاذيب - التي لم تشفع نواياها للتخفيف من وطأتها- عن كم المكاسب التي يحققها الجيش المصري وعدد الطائرات التي أسقطها من جيش العدو، حتى كاد الشعب يسعد لرفع رايات النصر والهتاف ويشحذ الهمم ويستجمع قواها استعداد للاحتفال بالنصر. إلا انه استيقظ من غفلته وسباته العميق الذي أوقعه فيه النظام برئاسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. نعم استيقظ على خبر الهزيمة المفزعة وأعداد الأسرى والضحايا التي فاقت التوقعات والمهانة التي ألمت بكل أطياف الشعب، وأثرت على اقتصاده وحاضره جنبا الي جنب مع حالة الحزن العام التي سادت أبناء مصر.
إلا أننا لا نستطيع أن ننسى خطاب التنحي الذي ألقاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والذي أكد فيه انه يتحمل المسئولية كاملة وانه على استعداد تام أن ينزل الي صفوف الشارع المصري ويؤدي واجبه كمواطن عادي...الخ. وما أن سمع الشعب المصري هذا الخطاب "ألمشاعري" - أي الذي خاطب مشاعر الناس قبل عقولهم- امتلأت الشوارع في جمهورية مصر العربية كافة مطالبة عبد الناصر بالبقاء وإعلان التأييد له وتجديد الثقة فيه. نعم خرجت الملايين تعبر عن مشاعرها تجاه رجل ورمز، اخطأ نعم ولكنهم نسوا مرارة الهزيمة بمجرد خطاب دغدغ فيه الزعيم الراحل مشاعرهم وخطاب فيهم سمات الشخصية المصرية التي سرعان ما تنسى الإساءة وتصفح أمام دموع التوبة والاعتراف بالخطأ.
نزل الشعب بأكمله معبرا عن تكاتف وتعاطف لبطل وزعيم يمتلك من الكاريزما الكثير والكثير. ولكن استرجع هذه الخبرة التي مرة بها الوطن مع زعيم اخطأ وتسبب في موت الأبرياء والضحايا، كان بحكم موقعه يعلم كم التزييف التي يتعرض له الشعب للحقائق والإعلام المضلل، كان بحكم موقعه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في قرار الحرب بل النكسة ومرارة الهزيمة.
نفس الشيء حدث وان كان بشكل مختلف مع الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك. يوم 3 أغسطس 2011 يوم محاكمته، مع الاختلاف إن جميع الشعب المصري والخارجي رأي بعينه كم الانتهاكات والاستغلال الذي مارسه هذا الرئيس ونظامه الفاسد ضد الشعب. نعم، رأيت بعيني كما رأي المصريون جميعا دماء الأبرياء من شبابنا مستقبل هذا البلد وهي تسفك وتُدهس بالمركبات دون رأفة أو رحمة. رأينا القناصة وهم يطلقون الرصاص على الشهداء. سمعنا الإعلام المضلل بآذاننا وهو يلفق الأكاذيب ويهتف للصوص والقتلة. رأينا رئيس يسلب حق بلد هو وأسرته ويهَّرب أمواله خارجا بينما يسد آذناه عن سماع صراخ المسكين وهو يحتاج الي رغيف خبز أو قطرة ماء نقيه يرتوي بها. رأينا وسمعنا كيف ضحي بالكثيرين في سبيل البقاء في السلطة وينكر كل الجرائم كافة امام القضاء بل أمام العالم كله....الخ
سألت نفسي سؤالا: ماذا لو خرج مبارك معترف بأخطائه وأعلن منذ البداية انه يتحمل المسئولية – كما فعلها ناصر في 67؟ ماذا لو أعلن انه سيترك السلطة طوعا لمن يختاره الشعب؟ ماذا لو خرج يوم محاكمته "محاكمة القرن كما يطلقون عليها" واعترف بأنه يتحمل المسئولية كاملة وانه على استعداد أن ينزل الي صفوف الشعب ويرد الأموال المسلوبة ويصحح من أخطائه. فهكذا تكون التوبة والبرهنة عليها. ليست مجرد خطب رنانة أو كلمات براقة جوفاء! ويا ليته فعلها.
ما أدهشني في محاكمة مبارك ضمن الأمور الكثير هو نفيه التام هو وأسرته لكل الاتهامات التي وجهت إليه. وكان هذه الأمور لم يكن يعلم بها وهذا خطأ أخر يحاسب عليه أو كأن أخر كان يحكم البلد مكانه! هنا استرجعت التاريخ وقلت ماذا لو تحمل المسئولية؟ هل تعاطف الشعب معه سيكون أكثر من قدومه للمحاكمة علي سرير طبي ليستعطف الشعب كذبا؟ ما اشد الفارق بين رئيس يتحمل المسئولية ويطلب التنازل عن السلطة معترفا بأخطائه وأخر ينفيها تماما بعدما حاول التمسك بالسلطة مضحيا بالشعب ومصالحه في سيبل الحفاظ على مركزه.
أنا لست متعاطف مع الرئيس المخلوع – وان كنت خدعت فيه قبلا- وكتب مقالا سابقا بعنوان "مصر فوق الجميع" أدعو فيه بإعطائه فرصة للبرهنة على صدق خطابه "خطاب الترجي واستعطاف الشعب" حين أعلن انه يريد أن يموت على ارض هذا الوطن. أقول أخيرا أن شيمة الأبطال هي في الاعتراف بالخطأ عند ارتكابه وتصحيحه عند المقدرة وتحمل المسئولية كاملة وليس إنكارها.