بقلم :جرجس بشرى
يعتبر الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك من أكثر الرؤساء والحكام الذين ظلوا يحكمون مصر لأكبر مدة ممكنة ـ حكم مصر لمدة ما يقارب الثلاثين عاماً ــ ، وكان مبارك يرأس الحزب الوطني الديمقراطي ـ حزب الأغلبية ـ وهو لا يزال في الحكم ، كما اعطيت للحزب الوطني سلطات فائقة وغير معهودة للسيطرة مقاليد الحكم في البلاد ، وكان مبارك من أكثر الذين يتغنون بالديمقراطية في خطاباته وأحاديثه في الداخل والخارج في الوقت الذي يقمع معارضيه بلا هوادة ويقصيهم ، كما استطاع مبارك طيلة فترة حكمة المتدة لمصر أن يقضي على التعددية الحزبية بمعناها السياسي المعروف في الدول المتحضرة ، حيث همش دور الأحزاب في الحياة السياسية ليصبح الحزب الوطني الديمقراطي هو الحزب الفاعل الوحيد والمتحكم في الحياة السياسية ، كما كانت لجنة شئون الأحزاب تضع عراقيل شديدة في مواجهة الأحزاب الليبرالية سواء كانت أحزابا جديدة أو قديمة . كان مبارك يستند في إدارة شئون البلاد إلى الجهاز الجهنمي المسمى بـ"جهاز أمن الدولة " ومن خلال هذا الجهاز كان الأمن يراقب كل شئ في مصر ويتحكم في شئون البلاد والعباد ، كما كان أيضا رقيباً وسيفا مسلطاً على رقاب المعارضين السياسيين والنشطاء الحقوقيين والكتاب وأصحاب الرأي والمطالبين بالتحول الديمقراطي ، حيث كان يقمعهم بلا هوادة ويُنكل بهم ويقودهم إلى السجون والمعتقلات دون جريمة مُحددة ، كما استطاع من خلال هذا الجهاز أن ينكل بجماعات الإسلام السياسي ويلقي بعضهم في السجون والمعتقلات ويخلق منهم فزاعة للأقباط والقوى المستنيرة والعالم الخارجي ، وعلى الصعيد الإجتماعي شهد المستوى المعيشي للمواطن المصري انحدارا غير مسبوق في عهد مبارك على كافة الأصعدة الصحية والتعليمية والبيئية بل والدينية ، حيث لاحظنا ارتفاعا ملحوظا في منظومة الفساد الذي استشرى في كافة أجهزة الدولة لدرجة أن قال ذكريا عزمي الذي كان يشغل رئيس ديوان رئيس الجمهورية في عهد مبارك ـقالها في مجلس الشعب ــ أن الفساد وصل في المحليات للرُكب !!! ، وبالتالي استطاعت حكومة الحزب الوطني أن تهمش المواطن المصري من خلال هذه المنظومة ببراعة فائقة ، حيث ارتفعت نسبة الفقر والأمية الدينية التعليمية والثقافية والبطالة إلى مستويات غير معهودة ، لدرجة أن وجدنا كثيرين من المواطنين ينتحرون بسبب الفقر والحاجة ،
وعلى صعيد تعامل الرئيس السابق مع الملف القبطي فيوثق التاريخ أن الرئيس المخلوع هو أكثر رئيس مصري في التاريخ المعاصر تلوثت يديه وسيرته بدماء الأقباط ، لدرجة أنه في جميع حوادث العنف الطائفي كان المواطن القبطي والمستنيرون من المسلمين يندهشون ومعهم المجتمع الدولي من عدم قيام الرئيس بإدانه حادث طائفي أو زيارة أسر الضحايا الأقباط ومواساتهم ، سوى في حادثي مذبحة نجع حمادي وكنيسة القديسين وهما الحادثتين اللتين هزتا العالم كله وأدمت قلوب المسلمين والأقباط كما اتبع مبارك سياسات خطيرة كفيلة بتقديمه للمحكمة الجنائية الدولية وهي سياسة إفلات المجرمين المعتدين على أقباط مصر وكنائسهم من العقاب وتحصينهم وتغييب الأدلة التي تدين هؤلاء المجرمين وتقدمهم للمحاكمة ، كما ساعدت جلسات الصلح العرفي عقب الحوادث الطائفية والعدوان الجماعي على أقباط مصر على تكرار الجرائم والحوادث الطائفية حيث من خلال هذه الجلسات كان يجبر الأقباط المعتدى عليهم على الخضوع لجلسات الصلح ليفلت المجرم من العقاب ، كما قمعت الحكومة المصرية في عهده الحريات الدينية وسمحت بحرية التحول من المسيحية للاسلام فقط ، واصدرت المحكمة الدستورية العليا حكما تاريخيا بالزام الكنيسة المصرية بالزواج الثاني للمطلق في سابقة خطيرة لاول مرة تجبر الكنيسة على مخالفة تعاليم الكتاب المقدس والانجيل وهو ما جعل البابا شنودة الثالث يقول بأعلى صوته ويسجل اعتراضه على هذا الحكم : نحن لا تلزمنا سوى تعاليم الإنجيل المقدس ، كما استطاع مبارك ان يقصي الأقباط عن المناصب العليا في الدولة والمخابرات والجيش والشرطة ورئاسة الجامعات وغيرها
كما عانت الاقليات الدينية من البهائيين والشيعة اضطهادا منظما في عهد مبارك حيث تم تكفير البهائيين وحرق منازلهم وحرمانهم من كتابة معتقدهم البهائي في الاوراق الرسمية ، وعلى سياق التعامل مع الملف الشيعي كان مبارك ينكل ويقمع ويعتقل الشيعة ويلاحقهم وكان هناك مكتب في جهاز امن الدولة لمقاومة المد الشيعي في المنطقة لصالح الوهابية ، كما اتهم الشيعة بالولاء بالخيانة تم تكفيرهم وتهمشيهم واعتبارهم موالون لايران وليس مصر .
وبسبب الجو الطارد للابتكار هاجر الآف العلماء هرباً إلى الخارج ليجدوا ذواتهم هناك ، بسبب تقزيمه للبحث العلمي .
كما ان هناك المليارات من المنح والتبرعات الخارجية كان يتم تخصيصها للتنمية والإصلاح الاجتماعي في مصر والتقليل من حدة الفقر إلا ان هناك محللون سياسيون واقتصاديون يرون أن هذه التبرعات والمعونات والمنح لم تذهب إلى مستحقيها من أصحاب الدخل المنخفض والمتدني ، وبل وهناك من يرون أنها هذه الأموال آلت لجيوب آل مبارك . كما عانى البدو والنوبيون اضطهاد ممنهج في عهد مبارك مثل الاقباط والشيعة والبهائيين حيث برغم لم يتم منح النوبيين حق العودة بعد تهجيرهم كما تم اتهام البدو بالخيانه والتآمر في كثير من الأوقات وتم اعتقال عائلات منهم ومن بينهم سيدات !!!
كل هذا دفع المواطن المصري محاصر في وطنه وهو ما دفع ببعض النشطاء للقيام بتظاهرة مليونية يوم 25 يناير 2011 للمطالبة باصلاحات اجتماعية وسياسية وديمقراطية ، وقد قامت التظاهرة التي انطلقت في كل ربوع وميادين مصر واستطاع الثوار أن يجبروا الرئيس على التخلي عن الحكم ، وقداتهم مبارك وقت الثورة جماعة الإخوان المسلمين بأنها وراء الفوضى اوالانفلات الأمني في ربوع البلاد ، ومن المقولات الشهيرة لمبارك أنه لو تخلى عن الحكم سيكون البديل هو الفوضى طالباً من الثوار اعطاؤه مهلة الى حين الانتخابات الرئاسية القادمة التي قرر انه سوف لا يترشح لها هو وولده جمال تحت ضغط الثوار .
ويذكر لمبارك انه استطاع ان يعيد طابا المصرية لمصر من اسرائيل بالتحكيم الدولي ، ولا يمكن لمنصف ان ينكر دور مبارك تحديث القوات المسلحة والشرطة والمواصلات بانشاء مترو الانفاق وهو الذي خفف عن القاهرة عبئا كبيرا من الزحام ، كما شهدت السياحة في عهده تنوعا ونموا شبه ملحوظ ، كما انه في ذروة الثورة ومطالبة الثوار له بالرحيل أصر في خطابه ان ولد على ارض مصر وعليها عاش وفيها يموت .
ويواجه مبارك حاليا تهمة قتل المتظاهرين والفساد ،ومن المتوقع أن يواجه بملاحقات أمام المحكمة الجنائية الدولية خاصة فيما يتعلق بالملف القبطي وقتل ثوار 25 يناير ، ولكن التحدي الأخطر هنا هل سيصل مبارك إلى السجن بعد مثوله أمام القضاء في قفص الاتهام كأول رئيس مصري في التاريخ يحاكمه شعبه ؟؟
إن الإجابة الخطيرة على هذا السؤال تتوقف على كيفية اصرار الثوار على مواجهة الثورة المضادة التي يشنها رموز تابعين للنظام السابق في الحكومة الحالية وبعض السلفيين وبعض الدول التي تخشى وصول الثورات إليها كالمملكة العربية السعودية