مصطفي الفقي
سوف يظل اسم «زكريا محيى الدين» هو الرقم الصعب بين شباب الصف الأول من الضباط الأحرار، الذين قاموا بثورة يوليو 1952، والسبب فى ذلك أن الرجل قد اجتمعت فيه خصال ربما لم تكن متاحة فى معظم أبناء جيله، فهو منذ شبابه المبكر شخصية رصينة وهادئة، قليل الكلام، عميق التفكير، حازم الرأى، واضح الرؤية، ولقد ظل أمام الجميع- بعد رحيل «عبد الناصر» ووصول الرئيس «السادات»- يلتزم الصمت، وكأنه الصندوق الأسود فى تاريخ الثورة المصرية، والكل يعرف أنه ينتمى إلى عائلة عريقة لا يخلو بعض أفرادها من مسحة دينية تصل إلى حد التصوف، فأجداده أقرب إلى نمط العارفين بالله من نمط الأعيان فى القرى الكبيرة، وقد أفرزت تلك العائلة دوحة وارفة من السياسيين والاقتصاديين والشخصيات المرموقة الذين خرجوا من (كفر شكر)، فهى عائلة المناضل الراحل «خالد محيى الدين»، ورئيس الوزراء الأسبق «فؤاد محيى الدين»، فضلًا عن أسماء كبيرة أخرى أمثال «محمود محيى الدين» و«عمرو محيى الدين» و«عبد العزيز محيى الدين»، وغيرهم فى مواقع العمل العام لسنوات طويلة، ولكن تبدو القيمة الحقيقية لـ«زكريا محيى الدين» فى أنه تفرد دائمًا فى توجهاته الفكرية وقراراته اليومية، فهو الذى أنشأ جهاز المخابرات العامة المصرية ووضع أسسه القوية التى جعلته واحدًا من أقوى أجهزة الاستخبارات فى المنطقة، كما أنه كان وزير الداخلية القوى الذى أعطى جهاز الشرطة بريقًا خاصًا فى عهده، وقد ظلت علاقته بالرئيس «عبد الناصر» هادئة ومستقرة، إلى أن ظهرت السحب الكثيفة فى سماء الوطن، وشنت إسرائيل (حرب الأيام الستة)، فسعى «عبد الناصر» قبلها لإنقاذ الموقف محاولًا إرسال «زكريا محيى الدين» إلى «واشنطن» للتفاهم مع إدارة الرئيس الأمريكى «جونسون» فى ذلك الوقت، ولكن العدوان الإسرائيلى كان قد سبق سفره، فأجهضت الرحلة، ويبقى هنا تساؤل لماذا اختار «عبد الناصر» «زكريا محيى الدين» تحديدًا؟!،
والسبب كما أراه أنه كان يظن أنه شخصية أكثر قبولًا لدى الأمريكان من سواه، كما كان «على صبرى» على الجانب الآخر أكثر قبولًا لدى الروس من غيره، ثم جرت الأحداث سريعة وظهر تعبير (النكسة) على السطح وحدثت دراما تنحى القائد، فإذا به يوكل مهامه- فى لحظة فارقة من تاريخ الوطن- إلى أخيه وصديقه «زكريا محيى الدين»، والكل كان يدرك أن عواطف الناس كانت مشحونة وتطالب «عبد الناصر» بالبقاء، وربما تعتبر ظهور بديل له نوعًا من التآمر عليها وعلى الوطن، فاندلعت الهتافات فى الشارع ضد «زكريا محيى الدين» الذى لا ذنب له فى كل ما جرى، ولكنه التعبير عن التمسك بقيادة «عبد الناصر» فى ذلك الوقت الصعب، وعندما اتجه الوزير «محمد فايق»- أطال الله عمره- إلى منزل الرئيس «عبد الناصر»- بعد خطاب التنحى بوقت قصير- كادت الجماهير المحتشدة أن تفتك به، ظنًا منهم أنه السيد «زكريا محيى الدين»، بسبب التشابه بينهما فى الشكل من خلال (صلعة الرأس) التى يشتركان فيها، فجاءت الإساءة للسيد «زكريا محيى الدين» من حيث لا يحتسب، حتى أصدر بيانًا يرفض فيه قبول المنصب ويعلن تمسكه بقيادة «عبد الناصر» للخروج بالوطن من آثار الهزيمة النكراء، وقد انزوى السيد «زكريا محيى الدين» بعد ذلك وحاول كثير من الكتاب والصحفيين أن يفتحوا ملفاته فى عصرى «السادات» و«مبارك»، ولكن الرجل كان عصيًا على الجميع، واعتبر أنه أدى مهمة وطنية فى مرحلة معينة، وقد انتهت فلا داعى للحديث واجترار الذكريات، وظللت شخصيًا أُمنى النفس بلقاء معه، فجاءت جلستى إلى جانبه على مائدة واحدة فى حفل زفاف، ولكن زحام المناسبة لم يسمح لى بحديث مستفيض معه، وقد بدا لى إنسانًا هادئًا وراقيًا ومتوازنًا،
ولكن جاءتنى الفرصة الذهبية وأنا سفير فى «النمسا»، عندما تلقيت اتصالًا هاتفيًا من زميلى، سفير مصر فى «براج»، يبلغنى فيها أن السيد «زكريا محيى الدين» وابنته الفاضلة سيتوقفان فى طريقهما من المصحة فى «جمهورية التشيك» إلى «القاهرة» عبر مطار «فيينا» لمدة أربع ساعات، وكانت هذه هى فرصة العمر بالنسبة لى، إذ رتبت لنا غذاءً فى مبنى المطار مع تلك الشخصية التاريخية، وكان الرجل يقظ الذهن تمامًا، قوى الذاكرة، ولكن مشكلته الواحدة كانت فى صعوبة المشى وآلام الركبتين، وفى أجواء بعيدة عن أرض الوطن قلت له: إننى أريد أن تجيب على سؤال لى حول موقفك من الرئيس «عبد الناصر»، فابتسم وقال: لأنك شخص عزيز عندى سأحكى لك قصة صغيرة، وهى أننا اجتمعنا قبيل 23 يوليو 1952 بليلتين فى منزل أحد الضباط الأحرار، ولأننى كنت مسؤول العمليات فى التخطيط للتحرك العسكرى المطلوب، فقد بدأت أشرح للبكباشى «جمال عبد الناصر» وبعض الضباط كروكى التحركات المنتظرة لقواتنا ليلة الثورة، واستطردت فى الشرح، وعلمت بعد أن برحت المنزل من بعض الزملاء أن «جمال عبد الناصر» قال: إن «زكريا» يتوهم أنه يحرك الأحداث ويعيش فى دور قائد الثورة!، ومن يومها أدركت أين أقع على خريطة «عبد الناصر»، والذى لا أنكر عظمته ومكانته برغم ما أعلم وما لا أقول، وابتسم قائلاً: هذه إجابة كافية عن سؤالك، وعندما اقترب موعد طائرته قال لى: هل عرفت لماذا أغلقت فمى لسنوات طويلة؟!.
نقلا عن المصرى اليوم