القس رفعت فكري سعيد
سبعة وعشرون عاماً مرت على استشهاد المفكر الكبير الدكتور فرج فودة، شهيد الكلمة الذى اغتالته يد الإرهاب الآثمة بتحريض من شيوخ الفتنة فى 8 يونيو 1992، والراحل الكريم من مواليد 30 أغسطس 1945 وولد فى الزرقا- دمياط، وفى ذكراه رأيت أنه من المناسب أن نذكر بعضاً مما قاله هذا العملاق، حيث إن ما كتبه منذ سنوات يتلامس مع واقعنا المعاصر اليوم، فمن يقرأ كتبه ومقالاته يدرك أن هذا الرجل، بعقليته الثاقبة وذهنه المستنير، كان يستشرف المستقبل، وكان يتنبأ بما نجتاز فيه اليوم من محن بسبب الأصولية الدينية وقادة الإرهاب، وقاتلوه كانوا يعتقدون أنهم بقتله سوف يميتون أفكاره ويقضون على كلماته، ونسى هؤلاء أن للأفكار أجنحة تطير وتحلق بها فى أجواء الجو العليا، ففرج فودة لايزال بيننا حياً رغم موته، وبعد كل هذه السنوات ونحن نسترجع ما كتبه فى كتبه، نتيقن أنه كان يقرأ المستقبل جيداً، ومن ثم فهو سبق وتنبأ بالواقع المرير الذى نعيشه فى يومنا هذا، فشهيد الكلمة الدكتور فرج فودة لم يكن ضد الدين، لكنه كان ضد الأصولية الدينية، وضد الأحادية وضد السمع والطاعة فقال: «إن تنامى الجماعات الإسلامية وتيارات التطرف السياسى الدينى فى مصر يعكس تأثير التربية والتعليم والإعلام فى مجتمعاتنا، حيث التفكير دائماً خاضع للتوجيه، والمنهج دائماً أحادى التوجه والاتجاه، والوجه الواحد من الحقيقة هو الحقيقة كلها.. الأمر الذى يدعو إلى التفكير، وهو أمر جد مختلف عما يدفع إليه المنهج السائد إعلامياً، والذى لا يعرض من الحقيقة إلا الجانب المضىء، ولا يعلن من الآراء إلا رأياً واحداً، ولا يدفع المواطنين إلا إلى اتجاه واحد، وهو من خلال ذلك كله يهيئ الوجدان لقبول التطرف، ويغلق الأذهان أمام منطق الحوار».
وفرج فودة لم يكن ضد الإسلام، كما زعم قاتلوه والمحرضون على قتله، لكنه كان ضد خلط الدين بالسياسة، فهو قال: «لا أحدَ يختلفُ حول الإسلام/ الدين، لكننا نتناقشُ ونجتهد حول: الإسلام/ الدولة. الإسلامُ/ الدين فى أعلى عِليّين، أما الدولةُ فهى كيانٌ سياسىّ، وكيان اقتصادى، وكيان اجتماعىّ، يلزمه برنامجٌ تفصيلى يحدد أسلوب الحكم».
وفى موقفه من العلمانية قال: «ليست العلمانية إنكاراً للأديان، وإنما هى إنكار لدور رجال الدين- بصفتهم رجال دين- فى إدارة سياسة الدولة أو توجيهها»، لقد طالب فودة، منذ أكثر من ربع قرن، بفصل الدين عن الدولة، وكان يرى أن الدولة المدنية لا شأن لها بالدين، وكان فرج فودة يرى أن الدولة المدنية الحديثة لا سيطرة فيها لرجال الدين، لذلك قال فى كتابه «الحقيقة الغائبة»: إننا نقبل بمنطق الصواب والخطأ فى الحوار السياسى، لأن قضاياه خلافية، يبدو فيها الحق نسبياً، والباطل نسبياً أيضاً، ونرفض أن يٌدار الحوار السياسى على أساس الحلال والحرام، حيث الحق مطلق والباطل مطلق أيضاً، وحيث تبعة الخلاف فى الرأى قاسية لكونه كفراً، وتبعة الاتفاق والمتابعة قاسية أيضاً لمجرد كونها فى رأى أصحابها حلالاً، حتى وإن خالفت المنطق، بل حتى وإن خالفت الحلال ذاته ولم تكن أكثر من اجتهاد غير صائب تسانده سلطة الحاكم باسم الدين، ويؤازره سلطان العقيدة فى ساحة غير ساحتها بالقطع. وقال أيضا: «إننا جميعا فى حاجة إلى إعادة توزيع الأدوار، ليتكلم رجال الدين فى الدين، وليتكلم رجال السياسة فى السياسة، أما أن يرفع رجال الدين شعارات سياسية إرهاباً، ويرفع رجال السياسة شعارات دينية استقطاباً، فهذا هو الخطر الذى يجب أن ننتبه إليه». كما أكد فودة فى كتابه «قبل السقوط» أن فصل الدين عن السياسة وأمور الحكم إنما يُحقق صالح الدين وصالح السياسة معاً، وأن من ينادون بعودة الخلافة، إن أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر، وإن أعجزهم حكم مصر هدموا مصر.
والدكتور فودة وكأنه يقرأ الواقع الثقافى المخزى الذى تعيشه مصر فى هذه الأيام قال عن الأصوليين المتعصبين: «سيصرخون ضد الغناء، وسيغنى الشعب، سيصرخون ضد الموسيقى، وسيطرب الشعب، سيصرخون ضد التمثيل، وسيحرص على مشاهدته الشعب، سيصرخون ضد الفكر والمفكرين، وسيقرأ لهم الشعب، سيصرخون ضد العلم الحديث، وسيتعلمه أبناء الشعب، سيصرخون ويصرخون، وسيملأون الدنيا صراخاً، وسترتفع أصوات مكبرات صوتهم وستنفجر قنابلهم، وتتفرقع رصاصاتهم، وسوف يكونون فى النهاية ضحايا كل ما يفعلون، وسوف يدفعون الثمن غالياً حين يحتقرهم الجميع، ويرفضهم الجميع، ويطاردهم الجميع».
وهكذا سيظل الدكتور فرج فودة حياً بأفكاره وبثوريته وبرؤاه الثاقبة وبمبادئه التى رفض أن يتخلى عنها حتى آخر قطرة من قطرات دمه بل ودفع حياته ثمناً فى سبيل الدفاع عن هذه المبادئ.
واليوم وبينما عالمنا العربى يواجه إرهاباً غاشماً يريد أن يقضى على الأخضر واليابس، هل لدينا مفكرون ومثقفون يتحلون بشجاعة وجرأة فرج فودة؟!!.
لا إصلاح بدون دفع ثمن.
نقلا عن المصرى اليوم