محمد أبو الغار
رحلت عن عالمنا نجمة ساطعة من نجوم الأكاديميا المصرية والتى درس على يديها عبر سنوات طوال أعداد هائلة من شباب الباحثين. الدكتورة مديحة دوس أستاذة اللغويات بقسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب جامعة القاهرة. كانت باحثة متميزة أضافت إلى لغتنا العربية أبحاثاً فريدة وأنجزت فى دراسات اللغة العامية وتطورها دراسات عظيمة وألفت كتاباً مهماً فى تخصصها بالاشتراك مع باحثين أمريكيين وأوروبيين، ولها دراسة مهمة عن الترجمان ولغته، ودراسة كبيرة عن تطور الفصحى والعامية ونشرت بحثاً عن جحا واللغة، وأعمالها العلمية تعد من الدراسات المهمة عالمياً فى تخصصها.
لقد أصدر المركز الثقافى الفرنسى للآثار كتاباً تذكارياً نشرت فيه مقالات باللغات الفرنسية والعربية والإنجليزية عن مديحة دوس وحياتها وأعمالها الأكاديمية ونشاطها الثقافى وشرفنى محررو الكتاب د. عزيزة بوشريت من فرنسا ود. هبة مشهور ود. ملك رشدى بدعوتى لكتابة فصل عن مديحة. وأقيم احتفال العام الماضى فى المركز الثقافى الفرنسى بمناسبة صدور هذا الكتاب وسعدنا كلنا بتكريم الصديقة مديحة.
وفى هذا العام أقامت كلية الآداب وقسم اللغة الفرنسية تكريماً لمديحة بجامعة القاهرة على إنجازاتها المهمة للعلم وللكلية وحضر باحثون أمريكيون وفرنسيون من كبار الأساتذة على نفقتهم الخاصة خصيصاً لحضور الاحتفال والتحدث عن دور مديحة المهم فى تقدم اللغويات.
مديحة محبة للفن والأدب والمسرح والسينما وعندها قدرة هائلة على تقييم الأعمال الفنية بالإضافة إلى معلوماتها المتبحرة فى الثقافة العامة، وأشرفت مديحة على رسائل دكتوراه فى مختلف الجامعات المصرية ولها تلاميذ فى كل مكان فى مصر وخارجها.
هذا عن مديحة الأستاذة الأكاديمية والعالمة. أما الدور الآخر الشديد الأهمية فهو دور مديحة الوطنى. مديحة عندها حس وطنى عظيم، فهى تعمل كل شىء لصالح الوطن، ومصر دائماً فى تفكيرها. شاركت مديحة من اليوم الأول فى تكوين مجموعة 9 مارس للدفاع عن الحرية الأكاديمية عام 2003 واستمرت تقوم بنشاط لرفع مستوى الجامعة وتحقيق الحرية للبحث العلمى ورفع شأن الجامعة الأكاديمى وكانت لها مواقف شجاعة ورائعة فى أحلك الأوقات.
فى عام 2010 حدث اعتداء إجرامى على الأقباط أدى إلى مقتل أعداد من المسيحيين أمام كنيسة نجع حمادى؛ فسافرنا فى وفد صغير للتضامن مع أهالى الشهداء والمصابين واحتجاجاً على ما حدث وكانت مديحة شريكة أساسية لنا فى هذه الرحلة.
وانتقل هذا النشاط إلى الوطن ككل فكان لها دور عظيم فى ثورة 25 يناير، ومنذ اليوم الأول كانت موجودة فى الميدان تدافع عن الوطن وتحارب الظلم والفساد، وترفع علم مصر. وكانت ذات مبادئ واضحة وصريحة ومعلنة؛ فلا تجامل أحداً ولا تدافع بدون وجه حق عن أحد. مديحة رأيها كان معروفاً للجميع بأنها مع العدالة الاجتماعية قلباً وقالباً، وكانت مؤيدة على طول الخط لفكرة أن التعليم كالماء والهواء وبأنه على الدولة أن تساعد الضعفاء ولا تقهرهم. كانت مديحة دائماً مع الحرية ومدافعة بشدة عن حقوق الإنسان.
مديحة دوس حفيدة العائلة الأرستقراطية والمؤمنة بالاشتراكية والمدافعة عن العدالة وتقليل الفوارق بين الطبقات؛ هى حفيدة توفيق باشا دوس أحد كبار المحامين عن المصريين فى محاكمات ثورة 1919 وعضو لجنة كتابة الدستور 1923 وصديق سعد زغلول. وعمة مديحة هى ليلى دوس مؤسسة جمعية تحسين الصحة ومن أنشط السيدات فى العمل المجتمعى، وقد اشتركت فى المظاهرات على كرسى متحرك فى ثورة 25 يناير وعمرها 95 عاماً وكانت مديحة قريبة جداً من عمتها وتعلمت منها العمل الاجتماعى وساعدتها على نشر مذكراتها وعمرها 96 عاماً.
مديحة دوس الإنسانة هى التى يتساوى عندها الوزير والمليونير مع الفراش والبواب، الكل يتساوى بل هى تفضل أن تجلس وتتحدث وتتحاور مع الكادحين وملح الأرض، وهى التى تساعد أولادهم بدفعهم نحو مزيد من التعليم والتدريب ليشقوا حياتهم بأنفسهم.
مديحة هى التى تساعد فى هدوء وتنظيم بدون كلل وتقترح أفكاراً لمساعدة ناس مظلومين أو الدفاع عن المقهورين وعن حقوق الآخرين.
مديحة دوس هى الأم الرائعة التى ربت ابنتيها تربية مثالية أعطتهما الحرية والثقافة والثقة بالنفس واختيار طريقهما فى الحياة، كلتاهما سارتا على نفس الدرب. ملك حصلت على الدكتوراه فى التاريخ، وشمس حصلت على الدكتوراه فى علم النفس وتشقان طريقيهما فى الحياة على نفس الطريق.
مديحة لها صداقات عظيمة على رأسها صديقة عمرها ملك رشدى الأستاذة بالجامعة الأمريكية والتى هى توأم روحها. ولها صداقات فى الجامعة والمجتمع المدنى وفرنسا وأمريكا وصداقات مع كل من يعمل فى العمل العام أو العمل الأهلى، فالجميع يحبها ويقدرها.
مديحة بالنسبة لى ولعائلتى كلها هى الصديقة الرائعة التى أرتاح لها وأحكى لها وتفهمنى وأفهمها عبر سنوات طويلة. آخر رحلة لنا سوياً كانت فى واحة سيوة مع عائلتى ومع ملك رشدى ومجموعة من الأصدقاء المصريين الأمريكان حيث قضينا رأس السنة الماضية هناك.
سوف أفتقدك كثيراً يا مديحة وسوف يفتقدك المجتمع العلمى والبحثى بالجامعة وسوف يفتقدك أصدقاؤك وتلاميذك المنتشرون فى ربوع الكرة الأرضية. أعلم أنك كنت وما زلت تفكرين فى مصر ونهضتها ولأنك أجدع مصرية أقول لك: قوم يا مصرى مصر.. دايماً بتناديك.
نقلا عن المصرى اليوم