محمد حسين يونس
هذا المكان عندما كان معروفا بإسم ( كيمت ) كان مركزا حضاريا جاذبا للشعوب المجاورة فتسللت إلية بحرا و برا .. غازية أو متاجرة أو مهاجرة .. مسالمة أو ناهبة سالبة
كان هذا سببا في تخصيب حضارتها وزيادة قدراتها .. و أيضا في كسوف شمس عزها بعد عام 525 ق.م عندما غزاها (قمبيز ) بقواته الفارسية .. فلم تعد (كيمت ) بلد القوة والعلم و التحضر بقدر ما أصبحت لمدة 2500 سنة (مصر ) القطرالتابع المحتل المتخلف .
اليونان بقيادة الإسكندر كانوا الغاصب التالي عام 330 ق. م فزاولوا إستعمارا إستيطانيا متوحشا تحت إسم (البطالسة ) الأسرة اليونانية الدخيلة .. لم يزيحها عام 30 ق.م إلا إستعمار قيصرى روماني أكثر قسوة و عتوا.. دام حتي 600 م ..
عندما طمع عرب شبه الجزيرة في الأمبراطوريتين الفارسية و الرومانية و إغتصبوا منهما مستعمراتهما كانت بلاد الأقباط من ضمنها .
الأتراك عام 1500 نهبوا (مصر ) المسيطر عليها ومستغلة لثلاثة قرون بواسطة جماعة المماليك فطردوهم ثم إستوعبوهم ليعملوا تحت قيادة إنكشارية حتي 1798 عندما بدأ الإستعمار الأوروبي الغربي بغزوة فرنسية.. ولازلت (مصر ) داخل دائرة نفوذه .
الفرس بالتعاون مع (مرتزقة) يهود الجيش المصرى المهزوم حرصوا علي ألا تقوم (لكميت ) قائمة فتخرج من حلبة المنافسة ..و اليونان الذين كانت لهم جاليات واسعة جلبها كهنة أمون (كمرتزقة) للدفاع عنهم فيما بعد الأسرة الواحد و عشرين .. سكنوا الساحل الشمالي فإختلطت الثقافتين و إزدهرت الأسكندرية وزهت بمكتباتها و جامعاتها .. ولكن خارج حدود الأسكندرية .. كان الفلاح (اللاوى ) مسروقا منهوبا بواسطة الجباة يعيش في فاقة .. و كانت الأديان الكميتية قد إختلطت باليونانية في عشوائية مقصودة .. رحب بها الكهنة المقهورين كما هي عادة كهنة كل عصور الظلام ..
لكن الكارثة التي دمرت ( كميت ) كانت أن المستعمر فرض لغته اليونانية علي العلوم و المراسلات الرسمية ولم يعد يخرج من مصر وئائق إلا تلك المكتوبة بلغة غريبة عنها يحمل وجهة نظر المستعمرين ..لتسقط الكتابة الديموطيقية و الهيروغليفية في غياهب النسيان بالداخل و الخارج .
و إن بقت اللغة المتداولة بين أفراد الشعب علي حالها إلا أنها أصبحت لغة منطوقة و ليست مكتوبة ثم بعد قرن حولها المسيحيون الأقباط بسبب الإختلافات الكنسية مع روما إلي لغة قبطية مكتوبة بحروف يونانية مطعمة بأخرى ديموطيقية .. كانت فيما بعد عونا علي حفظ الكثير من العادات و الثقافات من الإندثار .. ثم إنتهت لغة أهل كيمت إلي أن صارت اللهجة العامية التي نتحدث بها اليوم .
الرومان حولوا ( كيمت ) المدجنة إلي سلة غلال أوروبا و أسقطوا شعبها لستة قرون في أوحال التخلف شكلا و مضمونا .. ليعاني ذل وهوان الإستعمار و الإستلاب و يبتعد تدريجيا عن لغته و حضارته .. و دينه .
الإستعمار الروماني رغم قسوتة إلا أنه واجه صراعا ضاريا مع الأقباط دفاعا عن مباديء مسيحيتهم .. ضحوا فية بالشهداء..ومع كل هذا الإضطهاد و العنف لم تتوحد كنيستي .. روما .. و الأسكندرية أبدا .
عندما غزا العرب مصر بثلاثة الاف و خمسمائة مقاتل (فقط ).. وجدوا شعبا محطما مستعمرا لألف سنة ..( من 525 ق.م حتي 600 م).. يعاني من الفقد .. مستغلا .. مسروقا .. منهوبا .. جاهلا .. مفككا .. فلم يجدوا منه إلا مقاومة يسيرة .. وبعد أن إستقر بهم الحال .. بدخول الأسكندرية عنوة .. لم يقدموا له جديدا ولم يغيروا من إسلوب المسيرة الإستعمارية .. بل تركوه علي حاله .. مهتمين بحلب اللقحة .
عرب (( 600 م )).. كانت ثقافتهم و فكرهم لا تختلف كثيرا عن يهود زمانهم . يملكون نفس التراث السامي ( من سام بن نوح) الذى يحتم علي أبناء (حام بن نوح) خدمتهم ..
أبناء سام سواء كانوا ( عربا أو يهودا أو أتراكا ) تمسكوا بوصايا الزمن الأول ..و إستسلم الكيميتي المسحوق المبعد عن لغته و تاريخة لإدعاءات تفوقهم العرقي فيما يشبه الإنفصام النفسي .. لتصير بلدة كما ارادوا لها (مصر ) من أمصار و أجدادة كما إدعوا عليهم (فراعنة ) غلاظ القلب كفار .. و سكانها ( أقباط ) يدينون بمسيحية شرقية مسالمة طيعة تدفع الجزية و هي صاغرة .. و من أسلم فهو من (الموالي ) .. التفاصيل المحزنة للإستعمار العربي .. ستجدها في كتب مسجلة في زمنها بواسطة معاصريهم .. و مطبوعة حديثا كتراث .. تنشرة هيئة الكتاب . أهمها ( فتوح مصر و أخبارها ) تأليف أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد اللة بن عبد الحكم بن أيمن القرشي .
في كتاب (حاضر الثقافة في مصر) للأستاذ ( بيومي قنديل) ..صدر عام 1990 كتب عن الصراع الدائم في العالم القديم بين الرعاة و الزراع و الذى إكتسب (بصفة عامة) طابع الدفاع من جانب الزراع ... فقد قنعوا بما تحت أيديهم ، و أخذ شكل الهجوم من جانب الرعاة الذين طمعوا فيما يعوزهم ... بل حلموا به أحلاما خلابة إنعكست علي أساطيرهم و معتقداتهم قبل أن يحققوها بحد السيف .
دفاع دائم جعل المصريين كما قال سيجموند فرويد يبدون ودعاء و الساميين غلاظا همجا
في خضم هذا الصراع الذى إختلطت فيه الإسطورة بالتاريخ و الخيال بالحقيقة و الرغبات المكبوته بالأحلام السعيدة .. سلك العرب (البدو) ..سبلا فكرية و ثقافية علي دروب مهدها من قبلهم اليهود (البدو) ... ليصبغوا إمبراطوريتهم متعددة الجنسيات و الأعراق .. بصبغة شوفونية تميزية (أشراف - موالي )لا تخطئها العين الفاحصة ..أقرب للوصايا اليهودية .
ما تم تدوينه في كتب (الأخبار العربية ) عن مسارالبشرمنذ بداية الحياة وعن تاريخ العصور القديمة لأبناء المنطقة جاء مطابقا لما بالصحف اليهودية ..
فالعرب إستقوا من أسفار اليهود تفاصيل هائلة كما و كيفا .. بحيث أصبحت هذة التفاصيل مرجعا عربيا لورودها في أمهات كتبهم أو بكلمات أخرى أكثر صراحة خرجت حجافل الغزاة من شبه الجزيرة العربية .. يسلكون سلوك الأعراب أثناء غزواتهم ..وعندما إستقروا نشروا فكر اليهود .
زعيم طبقة كتاب الأخبار ( الحافظ بن كثير الدمشقي ) أدرك حساسية هذا الأمر فكتب بمقدمة كتابه الموسوعي ( البداية و النهاية )...(( لسنا ننقل عن الإسرائيليات إلا ما أذن الشرع في نقله مما لا يخالف كتاب الله أو سنة رسوله ..و هو القسم الذى لا يصدق و لا يكذب فنذكره علي سبيل التحلي لا علي سبيل الإحتياج إلية و الإعتماد علية )) .
الغريب أن الهجوم جاء من الفسطاط الأخر ..فعلماء الأنثروبولوجى - اليهود – المحدثين يشككون فى تاريخية ((سفر الخروج)) ويصنفونه فى إطار القص الأسطورى مثل الإلياذة والأوديسة أو جلجامش أو أوزيريس .
ومع ذلك إذا ما سألت أى مصرى مع من انت !!! ( فرعون أم موسى )
سيكون رده دون تردد ( نبى الله موسى ) ..فقد أصبح المصري من كل الفئات يفكر بعقلية (يهودي تقليدي اورثزوكسي) مستلب تماما لوصاياهم أكثر من اليهود أنفسهم الذين هجروا أفكارهم وتطوروا بعيدا عنها .
الأستاذ عصام الدين حفنى ناصف ذكر في كتابة (موسي و فرعون بين الأسطورية و التاريخية).. (( إن الكثيرين من العلماء النابهين يرون أن قصة موسى والضربات التى أهوى بها إلى مصر وجيشها لاتعدو أن تكون إحدى القصص التى تخرقها كتاب الأسفار اليهودية المقدسة ومضوا فيها ينكلون بخصومهم فى الخيال بعد أن عز عليهم التنكيل بهم بالنعال )) .
ولكن لماذا ينكل اليهود بالمصريين و (البابليين) يقرأ لنا الأستاذ عصام فى سفر التكوين الإصحاح 43 (( قال قدموا طعاما فقدموا له وحده ولهم وحدهم وللمصريين الآكلين عنده وحدهم لأن المصريين لا يقدرون أن يأكلوا طعاما مع العبرانيين لأنه رجس عند المصريين )) .
يا ألله على حجم التمييز العنصرى ... والذى تحول لدى بدو ذلك الزمان إلي عقد نقص .. ثم يذكر الإصحاح 46 ((أن تقولوا عبيدك أهل مواشى منذ صبانا إلى الآن ونحن وآباءنا جميعا ..لكى تسكنوا فى أرض جاسان ، لأن كل راعى غنم رجس للمصريين )).
بمعنى آخر أن (الكيميتيين ) المصريين كانوا عنصريين يعتبرون العبرانيين و رعاة الغنم كما ورد فى التوراة رجس يجب تجنبه ويتأففون من تناول الطعام معهم ..
وهكذا عندما ضعفت كيمت .. إنقلب السحر علي الساحر و اصبح البدو يزاولون عليهم نفس التمييز العنصرى و دعاوى التفوق العرقي.
فى الجزء الثالث عشر من كتابه (( مصر القديمة )) كتب سليم حسن (( فبعد أن سيطرت مصر(كيميت ) منذ نهاية القرن السادس عشر قبل الميلاد حتى بداية القرن الحادى عشر قبل الميلاد بوجه عام على كل العالم المتمدن ونشرت علومها وحضارتها فى معظم الأقطار التى تدين لسلطانها أو تتصل بها جاءت عوامل الوهن والضعف والدعة ( بسبب تسلط كهنة آمون ) وأخذت تدب فى أوصال الشعب عندما جنح أبناؤه إلى حياة الترف ومن ثم أخذت تظهر بوادر الاضطرابات والفتن السياسية والدينية فى أرجاء الامبراطورية مما أدى إلى إنحلالها وتفكك اوصالها فلم يسع الملوك ( الكهنة ) أمام تلك الحالة المنذرة بكل خطر إلا إستعمال الجنود المرتزقة لقمع الفتن وحماية البيت المالك نفسه )) .ومن المرتزقة.. يونانيون .. و منهم أيضا يهود
برستيد يشرح تأثير كسوف شمس بابل ومصر (( ومن الحقائق المدهشة أن يكون ذلك الإرث العظيم ( لبابل ومصر ) قد وصل إلى المدنية الغربية من شعب خامل الذكر سياسيا منزو فى الركن الجنوبى الشرقى من حوض البحر البيض المتوسط ..
فإن هذا الشعب لم يقم له نظام قومى خاص به إلا منذ العشر أو العشرين سنة السابقة لعام 1000 ق.م...ولم يبق أمة موحدة إلا نحو قرن واحد على الأكثر .... بذلك تكون حياة العبرانيين القدامى التى بدأت لأقل من ثلاثين سنة تسبق عام 1000 ق.م قد وقعت تقريبا فى النصف الأول من الألف سنة الأخيرة قبل ميلاد السيد المسيح وفى تلك الفترة كان تقدم الثقافة فى مصر وفى بابل قد نضب معينه وصار يعد خبرا من أخبار التاريخ القديم )) .
وهكذا يمكن أن نقول بثقة مناسبة أن العبرانيين فى زمن أقرب لظهور الإسلام كان لهم نفوذا ثقافيا ودينيا على المنطقة وظفوه فى النكاية (بكميت) و (الكيميتيين) مستولين على تراثهم الثقافى والفنى مدَعين أنه تراثهم هم وتاريخهم هم .
المؤسف هو أن صلة المصرى المعاصر لذلك الزمن بأجداده كانت قد إنقطعت إلى الدرجة التى سهلت إستلابه فيصبح عدوا لهم ولتاريخهم وثقافتهم و آثارهم مرددا فيما يشبه الانفصام النفسى دعاوى الاسرائيليات المضادة لأصولهم .
إذا كان هذا مقبولا فى ذلك الزمن فإن الغريب أنه بعد كشف أسرار الحضارة الكيميتية القديمة ومعرفة سذاجة التاريخ كما رواه عنا العرب والإسرائليين لازال الأحفاد من بيننا يعادون جدودهم وحضارتهم
و يعتبرون أن مرات أبوهم (مصر) هي أمهم .. مندهشين من قسوتها عليهم ..متجاهلين حزم و حكمة الأم الحقيقية الرائعة (كيمت ) .