الأنبا إرميا
استكملنا الحديث فى المقالة السابقة عن أحوال «الدولة العباسية» فى أثناء حكم كل من «المطيع لله بن المقتدر» (٣٣٤-٣٦٣هـ) (٩٤٦-٩٧٤م)، ومن بعده ابنه «الطائع لله» (٣٦٣-٣٨١هـ) (٩٧٤-٩٩١م)، حيث كانت أمور الحكم الفعلية فى «العراق» بيد «آل بُوَيه»؛ وقد كان حكم «مِصر» آنذاك قد أُسند إلى«العزيز بالله» ثانى الخلفاء الفاطميِّين من بعد أبيه «المُعِزّ لدين الله» الذى ولّاه شُؤون الحكم قبل موته.
«العزيز بالله» (365-386هـ) (976-969م)
هو «نزار أبو منصور العزيز بالله» ابن الخليفة «المُعِزّ لدين الله»؛ وقد ذُكر عنه أنه وُلد بـ«المغرب»، وحضر إلى «القاهرة» مع أبيه وظل بها حتى عهد إليه أبوه بالخلافة فتولى إدارة أمور البلاد وهو فى الثانية والعشرين. وقال ابن التَّغرىّ: «وكان القائم بتدبير مملكته مَولى (ناصر) أبيه «جوهرًا» القائد. وكان «العزيز» كريمًا شجاعًا سَيوسًا (سياسىّ محنَّك ويسوس أمور رعيته حسنًا)، وفيه رفق بالرعية»، وقيل فيه أيضًا: «كما كان ذكيًّا أديبًا مستنيرًا، يجيد عدة لغات، كريمًا محبًّا للعفو...»، إلى جانب قدرته فى قيادة الجيوش والحروب. وقد بُنى فى عهده: القصر الغربىّ، و«قصر البحر» و«مسجد الحاكم». ويُذكر أنه أول من حول «الأزهر» إلى جامعة، كما يُذكر أن عهده كان عهد سلام للمَسيحيِّين واليهود.
«العزيز بالله» و«جوهر الصِّقِلِّىّ»
كان بعد مجىء «المُعِزّ» إلى «مِصر» أنه تولى أمورها، وجعل «جوهر الصِّقِلِّىّ» قائدًا لجيوشه، حتى بدأت العَلاقة على ما يبدو تسوء وتتسرب الوحشة بينهما؛ وقد ذُكر أن السبب وشايات إلى الخليفة عن مكانة «جوهر» ونفوذه وهو ما قد يؤثر فى شعبية «المُعِزّ». فجرد «المُعِزّ» «جوهرًا» من مناصبه وأعماله كافةً؛ حتى عاد واستعان به لمحاربة «القرامطة» لٰكن علاقتهما لم تعُد كسابق عهدها؛ وفى ذٰلك يذكر المؤرخ «علىّ إبراهيم حسن»: «... وكل ما حفِظه لنا التاريخ أن «المُعِزّ» ـ على الرغم مما حبا به «جوهرًا» من العطف وأولاه من الثقة وحسن التقدير ـ قد أقصاه عن مناصب الدولة الكبيرة كالخِراج (جمع الضرائب)... وقلدها «يعقوب بن كِلِّس» و«عُسْلُوج بن الحسن». وهٰكذا نرى «جوهرًا» يتوارى قليلاً قليلاً عن مسرح السياسة المِصرية ولم يعُد إلى الظهور إلا أواخر سنة 364هـ حين تفاقم خطر «أفتكين»...».
وحين تولى «العزيز بالله» حكم مِصر أعاد «جوهر الصِّقِلِّىّ» إلى مكانته الأولى واستعان به فى تدبير أمور البلاد وبخاصة تلك التى تتعلق باستقرار أمور «الشام» من قتال «أفتكين» و«القرامطة»: إذ عاد «جوهر» إلى «القاهرة» بعد محاولات ومراوغات كثيرة معهما، فطلب إلى الخليفة «العزيز بالله» أن يخرج لقيادة الجيوش ومحاربتهما؛ فاشتدت الحرب بين الفريقين حتى قُتل عشرون ألفًا!، وانتهت الحرب بانتصار «العزيز بالله». وقد قيل إن «العزيز بالله» تغير تجاه قائده، لٰكن فى عام 381هـ (992م) اعتلّ القائد «جوهر» اعتلالاً شديدًا فجاءه «العزيز» وأرسل إليه بالأموال حتى تُوفى فى العام نفسه، فأكرم «العزيز» «الحسين» ابن «جوهر الصِّقِلِّىّ» لأجله.
حكم «العزيز بالله» على «مِصر» قُرابة أحد وعشرين عامًا وبضعة أشهر، وتُوفى عام 386هـ (969م)؛ وقد اختلفت الآراء فى موته: إذ قيل إنه مات بمرض «الفالوج» إبان حربه بـ«الشام»، وقيل إنه مات فى مدينة «بلبيس» بضواحى «القاهرة»، وقيل إنه مات فى الحمام بـ«القاهرة». وقد تولى حكم البلاد من بعده ابنه «الحاكم بأمر الله». وفى أيام حكم «العزيز بالله» فُتحت عدة بلاد: «حمص»، و«حماة»، و«حلب»؛ كذٰلك شهِدت أيضًا الصراعات بين كل من «عز الدولة» و«عَضُد الدولة» فى «العراق»، ومن بعدها العداوة بين الأشقاء الثلاثة: «عَضُد الدولة»، و«فخر الدولة»، و«مؤيد الدولة». ثم كان موت «عَضُد الدولة» وتتابُع أبنائه فى الحكم. وأيضًا خلْع الخليفة العباسىّ «الطائع»، وتولية ابن عمه «القادر بالله» الخلافة من بعده، و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم