سحر الجعارة
نعم أحببته، دون أن أعرفه أو أكون من بنات شعبه الحبيب، أحببت شجاعته وجرأته فى اتخاذ القرار، وإيمانه بالدولة المدنية، ودفاعه عن كل ما آمن به ودافع عنه مع رفيق دربه «الحبيب بورقيبة»، أول رئيس لتونس عقب الاستقلال عن فرنسا.. أتحدث عن الرجل الذى انتزع «تونس» من أنياب «حزب النهضة» الإخوانى، إنه الرئيس التونسى «الباجى قائد السبسى» رحمه الله.. الذى ناضل لآخر لحظة فى عمره «93 عاما» ليكرس مفهوم الدولة الليبرالية المعتدلة التى تؤمن بالعلمانية. لقد أطاح «الخريف العربى» ببعض بلدان وطننا الغالى فسقطت فى براثن الإرهاب، وتحولت إلى خرائب، باستثناء «مصر وتونس»، صمدا فى وجه جماعة «الإخوان الإرهابية»، بأذرعها السياسية «الحزبية».. وصمدا أيضا أمام التدهور الاقتصادى ما بعد الإخوان.. وكانت كل دولة تتطهر من حكم الإخوان بطريقتها.. مصر اتخذت التنمية والبناء طريقا، وتونس اختارت وضع قوانين حاكمة للدولة المدنية سبيلا لتحقيق الرخاء والتنمية لاحقا.
وكان الرئيس «السبسى» مثيرا للجدل منذ عودته للأضواء، وسط اتهامات بكونه أحد رجال النظام السابق، لكن أفكاره السياسية المعتدلة القائمة على «الواقعية السياسية» دفعت شعبه لتقبل عودته مرة أخرى، فترأس الحكومة التونسية الثانية بعد ثورة 2011.. ثم أسس حزب «نداء تونس» عام 2012، متسلحا بقاعدة شعبية واسعة ضمنت له الفوز فى الانتخابات الرئاسية فى مواجهة الرئيس المؤقت «محمد المنصف المرزوقى»، والأخير محسوب على تيار الإخوان فى تونس. ولهذا ستجد اللجان الإلكترونية للإخوان تنعق كالبوم على «السوشيال ميديا»، وتتهمه بالكفر والعصف بالقرآن، بينما هو راضيا مرضيا بين يدى الرحمن.. فيحسب البعض أن كل إنجازات «السبسى» أنه ساوى ميراث الرجل بالمرأة أو خرج من عباءة الوصاية الدينية ليحث مفتى بلاده على الاجتهاد والبحث لتحقيق التوازن الذى اختل بوجود «حزب النهضة» الذى ألغى قانون عدم زواج الرجل بأكثر من واحدة بعد مرور 50 عاما، فجاء السبسى ليعيده مجددا.. وهنا على الجميع أن يبتلع لسانه ويخرس: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، ولا يملك أحد أن يضع تفسيرات وفقًا لفهمه وثقافته وبيئته ويجبر دولًا أخرى على تنفيذها.. وإلا كان من حقهم مناهضة تنقية «السعودية» للأحاديث النبوية من الأحاديث الضعيفة التى تحض على التطرف والإرهاب.. أو وجب على «فلول الإخوان» ورؤوسهم مطالبة «تركيا»- بعدما لجأوا إليها- بغلق بيوت الدعارة!.
لقد رسخ الرئيس التونسى الراحل مفهوم «هيبة الدولة» لدى التونسيين، بإرساء «القانون» والحفاظ على المؤسسات وإعادة هيكلة ما يستوجب ذلك منها.. وعمل بشكل «براجماتى».. فنجح فى إدارة الملف الخارجى بالتقارب مع الدول الأوروبية والعربية أيضا.. ورغم خريطة الدم المرسومة على حدوده مع «ليبيا» لم يتورط فى الفوضى التى اجتاحتها.. وهنا نقف لنسأل: كيف تحصنت تونس من «داعش» وهى على بعد خطوة منها، (رغم تعرضها لبعض الهجمات الإرهابية)، لقد تحصنت بشعب أغلبيته ليبرالى لفظ الإخوان فى «صندوق الانتخابات» وأطاح بهم بشكل ديمقراطى.. وقبل برئيس من كبار السن، بينما كان شباب الثورة التونسية يسعون لاستبعاد الكبار من المناصب العليا فى الدولة، وهو ما رد عليه الرئيس المحنك بأن «الشباب هو حالة ذهنية».
كان الرئيس «السبسى» رحمه الله شابًا طوال رحلة نضاله، متقد الذهن يعمل بجدية ونشاط حتى داهمه المرض، كان مؤمنًا بإرادة شعبه وقدرته على التغيير.. ومن يراهن على «الشعب» لا يخسر أبدا.
رحل «السبسى» وترك «تونس» تلك اللوحة الربانية فى مهب الريح.. فالإخوان يتربصون بالشعب ويتهيأون للحظة القفز على كرسى الحكم مجددا.. وكأن مسلسل الدم محفور على جبين كل من آمن بأن «الدين لله والأوطان للجميع».. وكأن قدرنا أن نواجه دائما تسييس الدين ونقدم الشهداء لنفتدى أوطاننا وأدياننا.. حفظ الله «تونس» ورحم الرئيس «السبسى».
توضيح هام: ورد بمقالى الأسبوع الماضى «لامؤاخذة يا شيخ خالد» خطأ غير مقصود، فى حديث فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب» عن جواز خلع المنتقبة للنقاب فى حالة طلب رب العمل، فذكرت كلمة الحجاب بدلا من النقاب، ولذا وجب التوضيح.
نقلا عن المصرى اليوم