محمد حسين يونس
الكهانة عمل من أعمال النصب .. و الكهنة عبر التاريخ كانوا من المحتالين ..مثل الحواة .. و بتوع الثلاث ورقات .. و شوف فين السنيورة .. ..و مع ذلك لا يوجد شعب قديم أو حديث يجارى المصريين ( فيما عدا بشكل أو أخر الهنود ) في أن من شكل وعية و تولي تضليلة لقرون كانوا الكهنة.
أقدم رجال الدين المحترفين في العالم من (كيميت – مصر ) لقد كان بكل (نوم ) أى قرية أو كفر .. (نتر ) محلي .. له كهنته الذين يتكلمون بإسمة و يحملون أعلامة و شعاراته .. و يقودون تابعية لمعارك ضارية ضد ( نترات ) القرى المجاورة ...و يتكسبون من النذور و القرابين التي يمنحهم إياها أصحاب الحاجات .
وكان كلما إنتصر أحدها .. ضموا لصفاته صفات المهزوم فيزدوج إسم الإثنين .. علي سبيل المثال ( آمن – رع ) .
الكهان بقصصهم الخرافية العديدة إمتلكوا عقول و أفئدة المصريين و قاموا بتوجيههم في مسارات تخدم نفوذهم .. و تبقي عليهم يعيشون في رفاهية بمعابدهم .. يحركون الملوك و القواد و الشعب بإسم النتر الأعلي المقدس ... يدعون أن الهزائم جاءت بسبب غضبه و أن الإنتصارات جاءت بإرادته ...وبركة أدعيتهم فيفوزون بالقدر الأكبر من الغنائم .
فلنجول في فقرة من بـردية (وستكار) المحفوظة حالياً فى متحف برلين... لنر نموذجا لأساليب الإستلاب والمراوغه الكهنوتية التي صدقها المصرى و بني من أجلها الإهرامات و المعابد و المقابر بهذه الكثافة المذهلة .
((فى زمن الملك خوفو عاش بمدينه (سا خبو) التي تقع على الضفه الغربيه للنيل قريباً من منطقة هليوبوليس ... كاهن يدعى (وسر رع ) هو و زوجته ( رد- ددت)
الكاهن تنبأ بأن زوجته سوف ترزق بثلاثه أولاد من صلب الإله (رع ) نفسه ...وأن رع قد بشرها بأن أولادها الثلاثه سوف يجلسون على عرش مصر الواحد تلو الأخر وأن أكبرهم سوف يكون كبير الكهان فى مدينة (أون) هليوبوليس.
وتستمر القصه فى وصف أيام الحمل وما إقترن به من معجزات حتى تأتى ساعة الولاده فتحضر( نترات) متنكرات لتقديم العون للسيده الحامل إبان وضعها لحملها المبارك
ومن خلال تفاصيل كثيرة تدلنا علي إسلوب الأقدمين في الولادة .. تفرغ السيدة حملها وكانت كلما أخرجت أحد التوائم بشرته (النترات ) بما قدر له من حظ سعيد وقالت ( ملك يتولى الحكم فى هذه الأرض كلها ).
القصه ضمن عدة قصص ذكرت في هذه البردية .. تشبه القصص الشعبية لمختلف الحضارات .. و لكنها تمثل في حالتنا هذه الوسائل التى يلجأ إليها الفراعين لتثبيت عروشهم حين يعوزهم الحق الشرعى .. و تظهر ما قيل كمبرر للشعب عن واقعة إستيلاء كهنة رع على الملك فى نهاية الأسره الرابعه ثم سيادة الفوضي لالف سنة تالية هي فترة المرحلة الوسيطة .
مثل هذه القصص التي تحكي أن النتر الأعظم( رع أو أمن أو بتاح أو أوزيريس ) قد إقترن بسيدات مصريات .. ولدن ملوكا و ملكات .. ترددت لعشرات المرات و كتبت علي جدران المعابد و المقابر و التوابيت .. أشهرها ما ذكر عن حتشبسوت .. أو تحتمس الثالث ..و غيرهما من ملوك ما بعد الأسرة العشرين حتي أن الكهنة أقنعوا بها الإسكندر الأكبر و جعلوه يتصور أنه إبن لآمن .
المصرى كما أورد (بدج) في ألهة المصريين كان يتصور ( بناء علي أحاديث الكهان ) أن الأرباب عاشوا علي أرضه و حكموها لقرون ..
و أنهم قبل أن يرحلوا تناسلوا مع المصريات .. ليصبح الأبناء (أنصاف ألهه ) يحكمون بالحق الإلاهي ..
و هكذا فطول تاريخ مصر منذ زمن الأسرة الأولي..كان لقب الملك (حورسي مقدس ) . .. يحكم بناء علي قصة يحكيها الكهان .. عن ميلادة ..و علاقته الوراثية بالنتر الأعظم .
الغريب أنه كما فعل كهنة (رع) في نهاية الأسرة الرابعة .... طمع كهنه (آمون) بعد الفي سنة في الحكم مع الأسرة 22 ..و إستولوا علي العرش .. و أزاحوا بعيدا العسكريين .. و إستعانوا بالمرتزقة الأغريق و اليهود و الشوام ..للسيطرة علي الداخل و للمرة الثانية ..ضعفت مصر تحت حكم الكهانة لتسقط فريسة للإستعمار .
لقد كان الشعب المصرى منذ الأزل ضحية .. لتعليمات الكهنة .. ليصبح الأكثر تدينا بين الشعوب القديمة ..والأكثر حرصا على أداء طقوس دينه بحيث زاول الصلاة والصيام والحج والنسك وأدى مراسم للوفاة والدفن بأسلوب لا يفترق كثيرا عما يزاوله انسان القرن الحادى والعشرين المؤمن الموحد الملتزم
حصر التدين فى أداء الطقوس ، دون التعمق فى فلسفة الدين أدى الى جمود فكرى وعجز عن فهم مغزى المسموح والممنوع انسانيا .
فالعقيدة – أى عقيدة سماوية كانت او أرضية – تنقسم فى الغالب الى فرعين رئيسيين أحدهما يتصل بعلاقة البشر بما يحدث فوق إدراكهم من وجود الكون وتسييره ومصيره وهو ما يطلق عليه الميتافيزيقيا .
والآخر يتصل بعلاقة البشر بالبشر لتهذيب النفس والحد من الجور والبغى وهو ما يدرج تحت عنوان القيم ( الحق والخير والجمال ) .
فى مصر كانت الميتافيزيقيا ( دوما ) حكرا على الكهنة ورجال السلطة تكتب بلغتهم المقدسة ( الهيروغليفية ) ، أما الشعب فقد كان عليه الحرص على أداء الطقوس الشفاهيه فى مواعيدها و الإلتزام بالقيم الدينية ..ليضمن رضا إلآهه .
في مصر عبر كل مراحل التاريخ ..عاشت الأديان المختلفة متجاورة فى سلام وأمن ( الايزوريسية الخاصة بعبادة التجدد ) بجوار ( الآمونية الخاصة بعبادة السماء ) ، حقا كانت الأولى دينا للشعب والثانية للحكام الا ان أى من هما لم ينتقص من حق الآخر .
فى زمن لاحق وبعد الغزو العربى تجدد المشهد ، فالشعب الذى كان يدين أغلبه بالقبطية ، تقبل الحكام الذين يدينون بالاسلام .. اما الحكام فقد كان هدفهم الحصول على الجزية والخراج أكثر من الدعوة لدين جديد فتركوا الشعب على دينه مادام يؤدى ما يقرره بيت المال
الخلل فى التوازن بين الأديان جاء مع حكم المماليك ومن بعدهم العثمانيين الذين إضطهدوا الشعب فى دينه بقسوة ، جعلت العديد منهم يتسربون من المعسكر القبطى للمعسكر الاسلامى درءا للخطر .
وإن ظل المصرى مسلما أو قبطيا حريصا على أداء طقوس دينه وتعاليمه و الإلتزام بالعلاقة الحميدة بين البشر ، دون التعمق فى الفلسفة.. لذلك كان صيدا سهلا للوهابية فى الزمن التالى لتوقيع معاهدة كامب ديفيد
رجال الوهابية الذين تعلموا فى السعودية أثناء هروبهم من اشتراكية عبد الناصر ، رجعوا في زمن السادات ليعيدوا مناقشة جميع القضايا التى كانت قد حسمت مع النهضة بواسطة الافغانى ومحمد عبده وشلتوت و علي عبد الرازق و خالد محمد خالد .وغيرهم من التنويريين . فتعود المرأة الى خدرها وتمنع عن العمل ، ويصبح لصلاة الجماعة الأولوية عن لقمة العيش ، وتثار الزوابع على فوائد البنوك لإتاحة الفرصة لشركات توظيف الأموال النصابة
و قامت آلات الميديا الرسمية بتجاهل أى محاولات حقيقية لعرض وجهات النظر المعارضة فإختفي تراث فرسان التنوير مثل نصر أبوزيد و عبد الجواد ياسين أو علي مبروك أو أمين الخولي أو سعيد العشماوي
و لم يقدم للمتابعين أعمال لعلماء بحجم محمد أركون أو فراس السواح.أو سيد القمني ... لتظل السلطة لعقود طويلة تدعي التنوير و التقدمية و هي في جوهرها محافظة سلفية غير جادة في إجتزاز جذور الإرهاب .
الهم الأكبر الذى أدى الى تدهور الوعى المصرى ، كان تفسير الوهابيون لمعنى الجهاد وتكفير المجتمع والدعوة للاسلام بالقوة المسلحة .. إنعكس هذا على العلاقة مع غير المسلمين بحيث طالب بعض من أصحاب الفتاوى أن يدفعوا الجزية ، وبدأوا يجبونها بالقوة عن طريق مهاجمة منازل و متاجر ومحلات الصاغة التى يملكها غير المسلمين .
الحجاب والنقاب والاسدال وغيره من مخترعات التحريم ، انتشر بين سيدات وفتيات مصر اللائى كن المصدر الأساسى للموضة الحديثة .
بعد أن احتلت الوهابية جوامع مصر .. تجد رجالها بلحاهم غير المهذبة والجلباب الذى لا يصل الى القدم ، وأغطية الرأس المختلفة المستوردة من الخليج وإيران فى المدارس والجامعات والمحاكم ودور البحث .
فى المحلات ودور السينما .. فى كل مكان يحثون الطلاب وغير الطلاب على إتباع أفكار قادمة من مفتى السعودية تحض على استبدال الأدوية بحبة البركة والعسل وبول الابل ، واستثمار الأموال فى شركات اسلامية وتفسير كل الظواهر العلمية والتاريخية من خلال آيات القرآن أو الأحاديث النبوية ، ويتحول الكثيرون الى دراسة الفقه بدلا من الهندسة والطب والصيدلة لنجد الطب النبوى والصيدلة الاسلامية ، وليتدهور التعليم الديني والخريج الأزهرى ليقترب من الإرهاب .
حتى كرة القدم اللعبة التى لا يمكن تجاهل شفافيتها ، أصابها ما أصاب المجتمع الوهابى فالاعب الذى يخطئ يرى أنها إرادة الله وما شاء فعل فيسجد طاعة ، أما الذى يصيب فانه يسقط و باقي الفريق ساجدا شاكرا المولى على أنه قد وفقه .
فريق الكرة المصرى بدلا من التدريب والتثقيف وتعلم فن اللعب، يمضى وقته فى قراءة القرآن وشرح التفاسير ، فيتدهور المستوى ونخسر اللاعبين ولا نكسب دعاة وشراح واعدين.
الرجل المصرى الذى كان يحترم أسرته ويقدس الحياة الزوجية يدعمها وتدعمه ، أصبح البعض منهم عنيف يعتدى بالضرب علي أفراد أسرته ..و قد يتزوج مثنى وثلاث ورباع ، وكلما زاد دخله زاد عدد حريمه .
وتسقط قيم الحب الراقية والتعاطف والتوافق لتحل محلها قيم السوق ( بكم ) ( ماذا تدفع ) وتنحدر الأسرة مع كل زيجة جديدة .
المشكلة أن الفن يؤطر هذا ( الحاج متولى )نموذج لهذا الرجل الفحل الذى يشترى بماله جميع أصناف الحريم من تلك التى تفك الخط حتى الحاصلة على أعلى الشهادات الجامعية .
الكارثة الحقيقية فى مسألة الزواج هو ظاهرة الزواج من الأطفال ، الذى كان ممنوعا بالقانون وممجوجا بالعرف ، فأصبح له سماسرته ومسهليه وعاقدى الزواج من محامين وفقهاء بل من يحاول إعادة تقنينه من أعضاء البرلمان .
الفن عموما لدى الوهابيين مرفوض ، فلا موسيقى ولا نحت ولا رسم ، وقد شهد الكونسيرفتوار شيخا مبجلا جاء ليعظ طلاب المعهد فأفتى بان الموسيقى التى يتعلمونها والبالية حرام ، على نفس النمط قد يتولى عامل مطبعة مصادرة كتب لفنانين عظماء لأنه شك فى نية الكاتب عندما كتب جملة او كلمة لم يفهمها السيد العامل.
قضايا الحسبة لتجريم الفكر والفن أصبحت وسيلة إرتزاق للعديد من المحامين وسبيل لشهرتهم فى مجتمع أصبح يحبذ كل ما هو رجعى حتى فى أحكامه القضائية .. مجتمع يسكن نصفه فى البيت لأنه عورة ويطارد من تأبى فى الشارع والاتوبيس والسوق وأماكن العمل .
مجتمع ينخفض إنتاجة طوال شهر رمضان لانه صائم ويعاقب من يعلن إفطاره حتى لو كان مرخصا له ، مجتمع يحول شوارع المدن والقرى الى سلخانات للخراف ويلوث البيئة ويسد المجارى مستهلكا لحوم لم تفحص بواسطة البيطريون.
مجتمع يصر على رفع الأذان بميكروفونات ذات ذبذبات عالية تزعج المؤمن وغير المؤمن ، مجتمع أصبح الدعاة فيه أكثر من الأطباء والمعلمين لما يدره هذا العمل من كسب سهل للرجل والمرأة مهما كانت ثقافتهم او تعليمهم متدهورا .
ورغم هذا الايمان المفرط فان المجتمع يغرق فى الخرافات ومعجزات الجن والعفاريت ومآثر الملائكة التى حاربت أثناء عبور القناة مع الجنود ،أو كانت في رابعة أثناء الإعتصام .. وينفق المليارات على الحج والعمرة كإطار لإعلان الفضيلة ومداراة فظائع من الأفضل عدم ذكرها.
أما بعد فالمصرى عبر العصور لم يتغير .. لقد أسلم اذنيه و قيادته دائما لرجال الدين في ساحة المعبد أو قاعة الكنيسة أو حوش المسجد .... متكلا علي أنهم يستطيعون الإتصال بقوى غير منظورة .. يحكون عن أنها قادرة علي أن تبدل الأحوال بين غمضة عين و إنتباهتها ... ..و هو لازال يذهب للأضرحة و يضع في صناديق النذور ملاليمة أو يقدم قرابينه للأولياء أملا في أن يغيروا من حاله و يفكوا كربه .. و يجلس خاضعا أمام شيخ القرية يستمع له و يقبل كفة .. ثم يلتف حول التلفزيون يستمع برهبة لدروس اصبحت هي المصدر الوحيد لفكره متجاهلا كل إنجازات المعرفة .. التي غيرت من توجهات البشر و طرقت بهم دروبا غير مطروقة... صابرا علي بلواه .. مسلما ما بيدة لأولياء الامر .. منتظرا فرج السماء و عدالتها
و هكذا رغم أن الدستور ينص على أن الشريعة أحد مصادرالقانون إلا ان أنصار الوهابية يريدونه بكامله دستورا دينيا لحكم ثيوقراطي وسيطرة كهنوتية كما فعل من قبل كهنة (رع ) ثم (آمن ) .. و تسببوا في الفوضي و السقوط ..و التخلف ...
إنهم العنصر الثاني بعد قيود القوى العظمي يعمل في تحالف معها ليكبلنا و يعوقنا و يمنعنا من متابعة قوانين العصر .. و جعلنا نفتقد للعلم و العمل و المنطق و الفلسفة .
السؤال .. ما الذى أجهض الثورة التنويرية والليبرالية التى تجلت مع 1919 ... إنه حكم العسكر الفاشيستي الطابع المنحاز لفكر رجال الدين ( إلي الغد لنكمل حديثنا )