محمد علي إبراهيم
كلما تقدم الإنسان فى العمر تتضاءل أحلامه.. خصوصا فى الدول العربية والإسلامية.. يكون أقصى طموح للشيوخ هو الموت فى الفراش بدون عذاب المستشفيات أو مصارعة أمراض فتاكة.. نحن ننظر إلى حياتنا فنقول إن تاريخنا وراء ظهورنا.. وأن ما فات أكبر بكثير مما هو آت.. فلا داعى للصراع على الدنيا الفانية ولا التكالب على مناصب أو مكاسب.. حتى إذا ما تطوعنا بنصيحة نتيجة لخبرات تراكمية فى الحياة.. يسخرون منا ويقولون تخاريف عجائز.
ويصبح الأمر عبثيا وأكثر ألما عندما تتقافز قرود حولك تتهكم عليك ولا ترى ذيولها أو مؤخراتها.. المعنى أنك عندما تصل لسن معينة- إلا فيما ندر- يصبح عليك انتظار النهاية فى سكون والاستسلام لعوامل الزمن التى تحفر تضاريسها فى وجهك وجسمك.. أتذكر أنه كان هناك فى الستينيات والسبعينيات حافز رياضى يستفيد به الطالب عند الالتحاق بالجامعة.. لكن فى أوروبا وأمريكا تختلف الحوافز والحياة عمومًا، فهناك وظيفة تعرف بمدرب التحفيز وهو رجل ذو مهارات خاصة يساعدك على اكتشاف الجوانب المضيئة فى شخصيتك وتطويرها إلى طاقة إيجابية.
مهارة مدرب التحفيز أنه يحولك إلى كائن نشط محب للحياة وتقاتل فى سبيل البقاء.. طبعًا هى مهنة تصلح للمجتمعات التنافسية وليست للدول الاتكالية.. مهنة تطلق الإبداع من عقاله ويستفيد الجميع من ابتكارات العقول فى أى عمر.. المهنة لا تعرف رأيًا واحدًا ولا عقلًا منفردًا ولا أوركسترا يصفق على عصا المايسترو.. هى مهنة تحدى الصعاب وقهر المستحيل بإمكانياتك أنت وليس بالاستعانة بصديق.
هذه مقدمة ضرورية كى أحكى عن بطل قصتنا اليوم وهو هولندى اسمه ديريك فان هوفن.. من بلاد «الجبنة» وطواحين الهواء والورود وموسيقى الشوارع.. يبلغ من العمر 69 عامًا، أى أنه تجاوز سن التقاعد بستة أعوام (يتقاعدون عند الـ63).. رفع هوفن قضية أمام المحكمة فى أمستردام وهى أغرب دعوى ينظرها القضاء الهولندى على مدار تاريخه.. قال فى تبرير دعواه إنه يريد أن تقوم الحكومة رسميًا بتغيير تاريخ ميلاده من 1950 إلى 1970! وكان الحوار بينه وبين القاضى عجيبًا ومثيرًا.. وقال القاضى: ما السبب؟ أجاب الرجل السبعينى أنه فى هذا العمر لن يتمكن من شراء منزل جديد أو سيارة حديثة لأن البنوك سترفض إعطاءه قروضا لأنه لن ينجح فى العثور على عمل.. وأضاف أنه يشعر بإحباط كبير عندما يدخل إلى مواقع التواصل الاجتماعى والتعارف ويقول إن عمره 70 عاما فلا يرد عليه أحد بينما عندما يصرح بأن عمره 50 عاما فقط يجد ردودا كثيرة.
العامل الرئيسى لهذا الرجل فى دعواه هو إحساسه؛ فهو يرى أن الخمسين هى عمره الحقيقى؛ فمشاعره وجسده وأحاسيسه يرى أنها تبلغ الـ50 من العمر.
المحكمة ما زالت تنظر فى الدعوى.. محامى الرجل يقول إن موكله استخدم حقًا من حقوق الإنسان تماما مثلما يحق لأى إنسان أن يختار جنسية بلد ما أو حتى يحول جنسه من ذكر لأنثى أو العكس.
نحن هنا نجلد ذواتنا حين يغالبنا الأسى ونبدأ رحلة عذاب كل يوم جديد.. نقاوم التعاسة كما يقاتل المريض شراسة اليأس.. فأحيانا ننتصر وفى غالبية الأحيان نلقى هزيمة قاسية.. ولا أعلم لماذا تذكرت وأنا أقرأ هذه القضية حال أصحاب المعاشات فى مصر مهما كانت وظائفهم السابقة.. معاناتهم مع أحكام قضائية لصالحهم ومجتمع ينظر إليهم كخيل الحكومة يجب إعدامهم وإعلام يزأر فى وجوههم يطالبهم بالصمت؛ فقد أخذوا خير البلد لسنوات.. و.. و.. وأجدنى منساقًا لتذكر رواية العجوز والبحر للعظيم أرنست هيمنجواى التى حصل على جائزة نوبل وبوليتنزر بسببها! صياد عجوز يدعى سانتياجو ممتلئ حيوية ونشاطا.. يخرج للبحر يوميا ولا يعود بأى شىء.. يتحمل سخرية الصيادين.. يذهب فى رويتن يومى طوال 90 يوما ولا يحظى بسمكة واحدة.. ويفشل.. أى صبر وجلد قدمه هذا الرجل؟!.. الأمل فى القصة هو أن الصياد داخله يقين غريب أنه سيظفر بشىء ضخم.. وتحقق له ما أراد حيث نجح فى اقتناص سمكة أضخم من قاربه صارعها أسبوعًا.. أياما وليالى قضاها وراءها وعندما نجح فى ربطها بزورقه وبدأ يستعد لرحلة العودة.. هاجمتهم أسماك القرش وبدأت تنهش السمكة فلم يتبق منها سوى هيكلها العظمى..
ويتركه الصياد على الشاطئ فيصبح مثار إعجاب ودهشة القرية بأسرها.. وبقى الصياد خالدًا بالأمل والإصرار.. أتمنى أن أجد فى بلادى مناخًا يشيع الأمل لكل الأعمار.. يا حبذا لو نتبنى مبادرة الأمل للرواد فى كل مكان.. مجرد الاستماع إليهم وإشعارهم أنهم مازالوا قادرين على التفكير والإسهام فى الحياة يجعل الحياة أجمل.. علينا أن نتوقف عن معاملة المسنين كخيل الحكومة.. صحيح المستقبل للشباب، لكن هناك خبرات تراكمية علينا الأخذ بها.. فى الهند والصين هناك مراكز «ضد ألزهايمر» يؤمها الملايين.. على أية حال هى أضغاث أحلام.
نقلا عن المصرى اليوم