محمد حسين يونس
الإنسان هو الكائن الوحيد ( في حدود معرفتنا ) القادر علي الإدراك.. وذلك بسبب عاملين .. أحدهما أنه يستطيع بواسطة اللغة (منطوقة أو مكتوبة ) تخزين المعلومة (أى التجربة ) ثم إستعادتها .. و العامل الأخر هو أن المسافات التي يستطيع أن يقطعها تفوق بمراحل ما تقوم به كائنات أقوى و أسرع..
حجم إستيعاب التواجد داخل العالم لدى البشر يرتبط بهذين العاملين .. تطور اللغة .. و قدرتها علي تجسيد الخيال و التعامل مع القضايا و المسائل النظرية الأكثر تعقيدا سواء الفلسفية أو الرياضية أو المنطقية .. و تبادل هذه الخبرة مع الأخرين و توريثها لأجيال تالية ... ثم قدرته علي الإرتياد و الإستكشاف و الترحال .. بإستخدام أدوات و الأت تجعلة يجول اليوم في الفضاء ..
رحلة البشر مع الوعي و الحركة هي التي أنسنتهم و ميزتهم عن باقي الموجودات .
المعرفة المبنية علي المنطق و التجربة و الفروض و تصحيح الفروض .. هي العلم .. و أما إستيعاب العالم .. و فهمة .. و معرفة كيف يعمل للتكامل معه .. فهي الثقافة ..
المثقف العصرى كما أشار إليه سلامة موسى فى كتابه " فن الحب والحياة " عام 1947 نقلا عن من سماه الأستاذ دوبريه ( في الغالب ميشال دوبريه رئيس وزراء فرنسا في ذلك الزمن) .. هو من يمتلك خبرات و معلومات تتصل بست نقاط بيانها كالأتي :
اولا : أن يتعرف علي شكل الكون الذى نعيش فيه و التركيب الطبيعي له أى يدرس نظريات ولادته منذ 13,7 مليار سنة.. ويلم بعلوم الفلك الحديثة ..و نظريات جيولوجيا تكوين الارض.. والدراسات الرياضية الحاسبة لحركة الكواكب و الأفلاك ..و القوانين الحاكمة للطبيعة ( كالجاذبية و الحرارة و المغناطيسية و الاندماج او الانشطار النووى ) .. كذلك كيمياء المواد والعناصر التي تتألف منها الارض و الشمس و النجوم ((فهي جميعها سواء فيما يخص تكوينها)) .
في زماننا أصبح الأمر أكثر سهولة فتوجد عدة أفلام بهذا الخصوص علي (ناشيونال جيوغرافيك ) كما يتوفر معلومات مبسطة لكنها صحيحة مكتوبه في (إنسكلوبيديا ) الشباب بلغة انجليزية سهلة .. و لمن يسعدة الحظ و يدخل متحف أنثروبولجي مثل ( متروبوليتان ) سيشاهد أفلاما تحكي قصة نشأة الكون خلال مليارات السنين .. و لا أعرف إذا كانت علي يوتيوب أم لا .. و لكن أعتقد .. أنها لابد أن تكون موجودة علي سلسلة ( بلانيت إيرث ) .
الإنسان لم يعد في حاجة للتبحر في النظريات العلمية .. بقدر ما هو في حاجة لمشاهدة الأفلام التي جاءت بها مركبات الفضاء ليعرف أن الأرض كروية .... و أن البحر ليس أزرق فالمياة لا لون لها و إنما هي مثل السماء إنكسارات ضوئية
الشرط الثانى : أن يتعرف علي الفصيل الذى جئنا منه ( نحن البشر) من بين فصائل الوف الكائنات التي تنتمي الي المملكة الحيوانية.. بكلمة اخرى دراسة تطور الأحياء خلال الألف مليون سنة الماضية ، تاريخ عظيم حافل ((إذا درسته إزددت إنسانية))
وهذا أيضا لم يعد حكرا علي العلماء .. فالكتب المبسطة تشرح و تفسر و تحلل .. مستخدمة لغة العصر عن ال دى إن إيه ( الحمض النووي الريبوزي).. و في هذا المجال أيضا سنجد عدة أفلام في المكتبة العلمية تحكي القصة .. منذ أن لوثت النباتات الطافية علي سطح الماء البيئة المحيطة بإفراز ( الأوكسجين ) حتي لوث الإنسان نفس المناخ بإفراز ثاني أكسيد الكربون و الغازات السامة من صناعاته .
الإهتمام بالبيئة .. و تأثير كل من الموجودات علي الأخرى .. ومحاولة إنقاذ الكائنات و النباتات القابلة للإنقراض.. و الخوف من رفع درجة حرارة الكوكب و ذوبان جبال الثلج .. أمور تربط من يدرسها بهذا الكوكب الأزرق الذى هو بيتنا ... حتي الأن... و تعلي من شعور المسئولية لضمان سلامته .
الشرط الثالث :دراسة الحركات الكبرى في التاريخ البشرى مثل إكتشاف المصريين للزراعة و التقويم و إيجاد الحكومة و الدين وإختراع المطبعة و الالات ( من البخارية حتي المدارة ذاتيا ) وإكتشاف مكونات الذرة
(و الان، تطور وسائل الاتصال و الكومبيوتر و التكوين الجيني للاحياء والرياضيات الحديثة المتصلة بالابعاد متناهية الكبرأوالصغر ) وكل ما وجه تاريخ البشر او زاد من سرعة التقدم او فتح ميادين جديدة للفهم والاستكشاف..
ول ديورانت في موسوعته قصة الحضارة التي أصبحت - بفضل سلسلة القراءة للجميع .. و موسوعية فكر سمير سرحان - بين أيدينا باللغة العربية .. حكي كيف تطورت حياة البشر .. خلال الفين أو ثلاثة الاف سنة
الإلمام بما جاء بهذه الثروة المعلوماتية قد تستغرق السنين في قراءتها .. و لكنها في النهاية و بإسلوب بسيط أخاذ .. تجعل ان ما حدث خلال القرون الماضية جزء لا يمكن تجاهل تأثيرة علي واقعنا المعاصر .
جواهر لال نهرو .. الهندى .. كتب من أجل تعليم إبنته أنديرا غاندى كتابا موسوعيا أخر .. ترجم للعربية تحت عنوان ( لمحات من تاريخ العالم ).. و فيه يحكي ببساطة مذهلة .. أحداث الماضي كما تعلمها في كمبريدج.
(الحرب العالمية الثانية من وجهة نظر السوفيت ) .. مرجع ثالث .. يربطنا بعالمنا المعاصر ..
ثم تتوه بين الاف الكتب و المراجع التي تحكي ماذا حدث ب 1945 .. حتي اليوم .. فالتاريخ الأقرب هو الأكثر غموضا .
لن يتكتمل هذا الجزء إلا بكتابين .. أحدهما لجمال حمدان .. ( عبقرية المكان ) .. و الأخر كتبة الغزاة الفرنسيون .. وصفا لمصر .. و قاموا فيه بجهد فائق .. بتقديم لوحات كانها صور ملتقطة بكاميرات عن الحياة بها .
بقي أن الأفلام و المسلسلات التاريخية و الدينية الموجودة في السوق و التي تبثها أجهزة الإعلام .. ليست حقائق .. إنها وجهات نظر أخذت في الإعتبار إتجاهات أصحاب التمويل فإحذر إعتبارها علوما أو تاريخا .
في بعض الأحيان يصبح عليك أن تتناول دواءا شديد المرارة .. أو تبذل جهدا غير معتاد لتحقيق هدف ..و لكن رغم المرارة .. و الجهد إلا أنك لا تشتكي بل .. تقوم به بمحبة و حماس .
هكذا كان حالي و أنا أقرأ ثلاثه كتب اساسية في تكوين عقل المثقف .. .. كتاب دارون (( أصل الأنواع )) ..كتاب ماركس (( رأس المال )) كتاب سيجموند فرويد (( تفسير الأحلام )) ..الكتب الثلاثة كتبها عباقرة رواد عصرهم ..و مع ذلك لا أنصح بقراءتها ..
فهو تفصيلية و شديدة الصعوبة كتبها أصحابها لإقناع علماء عصرهم بما تحمله من نظريا ت صادمة
من تلي هؤلاء الرواد من علماء .. قاموا بدور رائع في تبسيط النظرية و تبويبها .. و تطويرها .. و معالجة نقاط الضعف بها .. لذلك إستمتعت بكتب سلامة موسي الشارحة لفروع معرفية مبسطة أكثر من الأصول الصعبة ..(مقدمة السوبرمان ) أبسط من كتاب نيتشة ( هكذا تكلم زرادشت )..( الإشتراكية ) تلخيص لكتاب برنارد شو ( دليل المرأة الذكية للإشتراكية ) ..كذلك كل من كتاب ( أسرار النفس ) هو تبسيط لكتاب (تفسير الأحلام ) لفرويد .. ونفس الإسلوب بين كتاب ( نظرية التطور و أصل الإنسان ).. و ( أصل الأنواع ) لدارون .. و (مصر أصل الحضارة) و كتاب (فجر الضمير ) لهنرى بريستد
دور أشخاص مثل سلامة موسي في تشكيل عقل متابعيهم ..و تقديم علوم العصر لهم بإسلوب مبسط .. دور شديد الأهمية ..كان قائما به في بدايات القرن العشرين .. شبل شميل .. و جورجي زيدان .. و طه حسين .. و يوسف إدريس .. ثم إختفي تدريجيا .. مع إضمحلال الثقافة بعد أن حل مكان ( ثروت عكاشة ) وزراء أقرب للفنانين منهم للمثقفين
الأنثروبولوجي علم دراسة البشر وسلوك الإنسان والمجتمعات الغابرة والحاضرة. و هو علم يشرح وضع الإنسان ككائن إجتماعي .. و يقوم بدراسة ثقافته و قيمة ومعايير المجتمعات. .. و كعرفته هي شرط من شروط مستر دوبريية ..
الشرط الرابع :
أن يتعرف المثقف ((علي النظم السياسية و الإجتماعية التي يعيش في ظلها ونظم الحكم وكيف يتزوج الناس وكيف يتصرفون بالثروة وكيف يوزعونها على الأفراد ، وما هى الطرق التى تتبع فى الارتزاق والتعلم وصيانة الصحة ؟ ثم كيف يحكم الناس ، وكيف تحل المحاكم مشاكلهم ثم كيف تغيرت المجتمعات البشرية ،وما هى الأسباب الأصلية التى تجعل احدى الأمم راكدة آسنة ، فى حين أن الأخرى ناهضة متقدمة.))
أشهر الكتب.التي تغطي هذا المفهوم هو ((مقدمة إبن خلدون)) الذى شرح من خلال سفرياته أحوال ناس الشمال الإفريقي في العصور الوسيطة .. ثم ))عجائب الآثار في التراجم والأخبار(( للجبرتي الذى غطي زمن الحملة الفرنسية و((بدائع الزهور في وقائع الدهور )) لإبن إياس عن زمن المماليك .. و إن كانت اللغة المكتوب بها هذه المراجع مهجورة و صعبة علي شباب اليوم ..مما يتطلب تبسيطها أو تلخيصها .. كما فعلت بالنسبة لموسوعة إبن إياس ..والتي ستجد ملخصها لها في كتابي (( قراءة حديثة في كتاب قديم )).. و الذى يحوى أيضا عرضا لكتاب (( صعود و سقوط الرايخ الثالث )) ..
التعرف علي تطور الحياة الإجتماعية و السياسية من زمن القطيع البشرى .. و القبيلة .. ثم التجمع الريفي .. فالمدن .. فالدولة .. فالإمبراطورية ... سنجدها في مراجع الأنثروبولجي ..كذلك في المتاحف التي تغطي هذا الفرع من المعرفة .. و لدينا علي أطراف القاهرة في مدينة الفسطاط .. متحف للحضارة .. رغم أهميته إلا أنه شبة مهجور
هجرة البشر و وصولهم للأمريكتين .. تجدة في متحف أسفل تمثال الحرية بمدخل نيويورك .. إختلاط الحضارات و تأثرها بعضها ببعض .. كتب فيها العديد من المؤلفين ..من أهم هذه الكتب مؤلف إنجلز (أصل العائلة ) .. و كتاب سيمون دى بفوار ( الجنس الأخر ) ثم من سوريا تأتي مجموعة كتب فراس السواح .. و بعض كتب سيد القمني قد تكون مفيدة في هذا الخصوص .
لقد تطور القطيع البشرى .. إلي المجتمع الشيوعي البدائي ..و بسبب ملكية وسائل الإنتاج تحول إلي مجتمعات قبلية أو زراعية عبودية .. و التي دامت لالاف السنين حتي بعد إكتشافات العالم الجديد و غزو الأمريكيتن و إندثار قبائل السكان الأصليين .وإستيراد العبيد لتعميرها .
لقد شهد العالم قرون عدة من القلائل و الحروب و الإعتدائات بين شعوب مصر و بابل و أشور و فارس و الأغريق و الرومان .. و شهد غزو قبائل التتار للهند و العثمانيين لمنطقة الشرق الأوسط و الفايكينج للإمبراطورية الرومانية .. سواء بسبب بسط النفوذ و النهب أو متلفعين ببردة العقائد و الديانات .
و كان للغزو و الهجرة و التتجارة سبيلا لإختلاط الحضارات و نقل المعلومات و الخبرات .. و رغم هذا
يظل هناك دائما خوف و وجل من أباطرة الإستبداد الشرقي أو الفاشيست و النازيين و اليابانين المحدثين المكونين للمحور في الحرب العالمية الثانية و كاد أن يقضي علي حضارة الإنسان في أربعينيات القرن الماضى
الإستبداد الشرقي في أسيا و منطقتنا .. ثم الراسماية .. و الإمبريالية .. و الدولة الشمولية الفاشيستية .. جاءت مقاومتها بالديموقراطيات الحديثة .. و مباديء حقوق الإنسان ..
الإلمام بالايام الصعبة .. و التعلم منها و بالإنجازات المصاحبة او التالية ..كلها معلومات تجعل المثقف بشرى .. و ليس دابة يكرر الأخطاء .. و يدخل مثل الفأر المصيدة مئة مرة لو أنه نجي منها لسبب أو أخر ..بمعني إن لم يتعرف المثقف علي تجارب الأخرين السابقة و علي الفلسفات المحرضة عليها.. فسيقع أسيرا لما سيمليى عليه .. من أنظمة تجعلة كالريشة في مهب الريح .
في العالم إسلوبين أساسيين للتعرف علي حركة المجتمعات .. أحدهما رصد للتفاصيل و كتابة التاريخ كطفرات من خلال الإنجازات الكبرى ( البراجماتية ) ..رغم أنها في الغالب وجهة نظر الغالب المنتصر .
و الأخر يطلق علية (المادية التاريخية ) و التي تخضع لتحليلات جدلية تجعل من التراكم الكمي و التغير النوعي وسيلة لفهم الاحداث .. و التعرف علي الأسلوبين .. أساس معرفي لا غني عنه للمثقف .
الشرط الخامس :
((أن يعرف أسس القيم البشرية وهذا يجب أن يحمله على درس الأديان والفلسفات قديمها وحديثها ، شرقها وغربها أى يجب أن يعرف ديانات شعوب المنطقة ( البابليين و المصريين القدماء) وكيف تصوروا النعيم والجحيم ، ومبلغ ما فهموه من معنى العدل ، وكذلك ديانات الصين والهند واليونان ، الى ظهور الأديان التوحيدية الكبرى .. وقريب من الأديان فى الاتجاه هو الفلسفات التى حاولت بالتعقل ، ما حاولته الأديان بالوحى . هذه الفلسفات يجب أن نناقشها بعقل مفتوح مثل ما قدم سقراط وأرسطو الى جيمس ديوى وسارتر)).
وهذه الخطوة هي الأصعب .. فكل منا يمتص عقيدته مع لبن الأم .. إنها تغزو عقلة الباطن مثلها مثل لغته و سلوكياته .. .. و كل منا يتصور لسبب ما أن عقيدته هي الحق .. و أن ربه هو رب هذا الكون .. و أن ما عداه باطل .. لذلك فمن الصعب أن يتصور البوذي أن الهندوسية تحمل نفس القدر من القيم العليا .. و أن (الكارما ) وسيلة لان يحيا الإنسان بشرف حتي يحصل علي حياة تالية أفضل ..
الأديان .. من بدايتها مع عبادة الأرواح الطيبة و الشريرة للسلف .. و الطوطمية منها .. ثم متعددة الألهة .. فالموحدة .. كلها تحمل عنصرين أساسيين .. ما يسمي بالميتافيزيقيا .. و هي تتصل بقضايا تفوق قدرة العقل البشرى .. فيعتصم بافكار غير ملموسة .. و أساطير تتبادلها الشعوب و تطورها حسب بيئتها .. و الجزء الخر خاص بالطقوس .. و أغلبها لها صلاتها الخاصة و إسلوب الحج للأماكن المقدسة .. و الصوم عن الفعل أو الحديث أو الطعام .. سنجد هذا لدى المصرى و البابلي و الشامي و الإغريقي و الروماني و حتي لدى الهنود الحمر .
الفلسفات لها حديث أخر فهي مبنية علي التجربة و التحليل العقلي و المنطقي .. و منها زرادشت .. كونفوشيس .. ثم فلاسفة اليونان .. ففلاسفة عصر النهضة .. و الفلاسفة المحدثين .
دراسة هيكل الأديان و تتبع فكر الفلاسفة .. و إستخلاص طريقك الخاص .. هو الذى يجعل منك مثقفا .
الشرط السادس والأخير : (( أن يدرس الرجل المثقف البلاغة البشرية أى الأدب والمسرح و الشعر والموسيقى والفنون الجميلة،ويزاول بعضها لأن الحياة البليغة تقتضى الاحساس العميق والتصور الجميل ، بحيث نستلهم من الأدباء والفنانين أسلوبا يرقى بنا الى أن نحيا الحياة الفنية الغنية)) ..
الشخص العادى يجلس في قاعة المسرح يستمع إلي الحان البالية أو الأوبرا أو السيموفونية أو الكونشرتو .. فينفعل .. و يطرب .. و يستمتع .. .. المثقف .. يعرف من أى عصر جاء ( باروك ، روكوكو ، رومانسي ، كلاسيك ، ) و ما نوعية اللحن وشكله (form ).. و المجتمع الذى يعبر عنه ( ديني ، إقطاعي ، ثورى ،متمرد ، راسمالي ) .. فالألحان و الرسومات و المنحوتات .. و المدن , العمارة .. و الابس و الحلي .. تحكي للمثقف كلاما يخالف ما تتركه من إنطباعات لدى العامة
قرأت حول ثمانينيات القرن الماضي كتاب هلين جاردنر (الفن عبر العصور ) art through the ages حوالي 900 صفحة و 500 صورة أو لوحة و بيانات مقارنة خلال العصور عن الأعمال الفنية التي تعاصرت في شتي أنحاء العالم .. تبدأ الرحلة من عصر ما قبل التاريخ و تنتهي في زمننا
خلال تصفحي للكتاب لم تغادرني أبدا الرغبة في ترجمة هذا الكنز للقارىء المصرى .. و لكن كان يحبطني الجهد الذى سيبذل لا يتناسب مع المردود المادى أو الثقافي ..و أن إنتاجة ذو تكلفة مرتفعة ..فضلا عن نقص إهتمام المصريين بمثل هذه الأعمال .
الكتاب لأهميته كانت مؤلفته تعيد طباعتة مزودة إياه بما يستجد حتي توفت .. فقام فريق من الجامعة الأمريكية ( Yale ) بإستكمال المهمة بحيث كانت النسخة التي قرأتها تحتوى علي شروح لأخر الإبداعات العالمية .
ترجمة و طباعة مثل هذا الكتاب صفقة خاسرة .. بين مائة مليون مواطن .. لا يضع اغلبهم في منزلة لوحة أو تمثال حتي لو كان من النوع التجريدى .. إذا يعتبرها كفر و خروج عن الملة .. نحن نكرة الفنون .. و نهرب منها ( كأفراد و جماعات و مجتمع ) هروب من يحاول النجاة من النار .. رغم أن فنون أجدادنا لازالت مبهرة ... ورغم أنهم في ستينيات القرن الماضي أقاموا أكاديمية للفنون .. ضمت معاهد للبالية و الموسيقي و المسرح و السينما .. و لكن في الثمانينيات .. أصاب أهلها ما جعل شيخ جليل يحاضر طلابها فيقول لعازفي أوركسترا الكونسيرفتواغر .. (( الموسيقي مزمار الشيطان )) ... و يخاف الطلاب في كلية الفنون بعد قرن من إنشائه أن يلتحقوا بقسم النحت .
البلاغة البشرية التي حدثنا عنها سلامة موسي .. هي إختيار الكلمات لتعبر عن المعني بدقة .. فإذا ما كان لها وزنا أصبحت شعرا .. فإذا ما كسرت القافية أصبحت شعرا منثورا ..
اللغة جميلة النطق و المختار معانيها بدقة .. هي سمة من سمات الثقافة .. فالانسان الذى لغته مشوشة أو غير معبرة أو يكملها بحركات يدية و وجهه وجسدة .. غير قادر علي الإبداع و يحتاج لمران طويل و تدريبب ليصبح مثقف الكلمات .
منذ زمن ( جلجامش .. و إيزيس و أوزيريس ، و الإلياذة و الأوديسا ) و الإنسان تبهره الأسطورة .. و أحداثها الخيالية .. ثم جاءت كليلة و دمنة .. و الف ليلة و ليلة .. لتقدم سحرا جاذبا و ممتعا .. فالإنسان من خلال العفاريت .. و الجن يحقق في الحلم ما يعجز عن تحقيقة في الواقع ..
القص تطور عبر التاريخ .. قصص قدماء المصريين التي إختلطت بأساطير البابلية .. و الكلدانية .. و سافرت عبر المتوسط لكريت و اليونان جعلت من المزاج الثقافي للمنطقة طابعا .. يصعب تجاهله ..
القص الواقعي أو الأسطورى تحول في اليونان إلي مسرح ..لازلنا ليومنا هذا نستمتع بما أبدع سوفوكليس و يوربيدس و أسخيلوس ..و منها مسرحيات عرضها المسرح القومي مثل الضفادع .. و أنتيجونا .
المسرح في مصر أخذ شكل بلاغة التعبير بالجسد عن طريق الرقص .. علي موسيقي للأسف نجهلها فلم تكن تكنيكيات التدوين معروفة ..
و لكن تشعر بها عندما تحركك دقات الزار و الحان المداحين و الموسيقي الكنسية .. و لا أريد أن أقول أنغام الأذان و تراتنيل الصلوات كلها مصرية فأغضب البعض و يتركون كل الموضوع ليثيرون ذوابع أن التلاوات السبع للقرآن ليست مصرية الأصل .
المسرح ظل لفترة طويلة يعبر عن القص الديني .. ففي مولد أوزيريس كانت الكاهنات و الكهنة يرتدون أزياء إيزيس و نفتيس و ست و حورس ويقومون بتمثيل موته .. و قيامة .. و تولية حكم عالم (التوات ) تاركا الأرض لإبنة . هذة التقاليد نجدها لدى العديد من المعاصرين و إن تنوعت الأسماء و الحكايات .
الموسيقي لها سحرها الخاص سواء كانت أنغام الحادى الذى يغني لجمله في قافلة تسير في الصحراء علي ضوء قمر .. أو ناى حزين يبكي علي شاطيء أو دفوف تعلن عن الفرح .. و قد تودع الموتي .. والإنسان كلما تقدم علي درب الثقافة .. كلما أصبحت لدية الموسيقي أكثر تركيبا ..
الموسيقي ببساطة هي إيقاع ( ريتم ) و لحن ( ميلودى ) كلما زاد الإيقاع علي اللحن كان العمل بدائيا .. إستمع لموسيقي شباب اليوم .. رقع و خبط .. و أرتام عالية .. لأنهم غير مثقفين .. إنهم نبت البيئة دون تهذيب .
في حين أن قبل اليوم بعقدين أو ثلاثة .. كانت الألحان العذبة تتغلب .. و الأرتام تصاحبها .. لقد كنا أفضل لموسيقانا معالم و قوانين تسمي ((مقامات .. مثل سيكا و نهاوند و بياتي و كرد ... ))... ثم تدهورنا ...فلم نعد نتحرك إلا مع دقات الأرتام المجنونه .
عندما يقوم الأوركسترا بعزف أكثر من إيقاع بواسطة الأته المختلفة .. و تجدها جميلة فهو قد قام بعمل (هارموني) اى توافق أو (كونتر بوينت) أى تعارض مثل الألوان المتوافقة .. و الألوان المتضادة (أبيض و إسود ) ..التي لو صيغت بصورة جيدة أعطت جمالا .. الألحان أيضا قد يعزف الأوركسترا أكثر من لحن متوافق أو متعارض معا ..تعطي ما يسمي (بالفورمد ميوزك ) الموسيقي ذات الشكل و المتخصصين يسمونها فورم (السوناتا) أو ( الروندو ) .. و هكذا ..
الموسيقي المركبة عادة ما تكون تون أو نصف تون .. و لم تعرف الربع تون إلا الموسيقي الشرقية .
المثقف هو الذى تعتاد أذنية علي سماع (الفورمد ميوزك) .. و يستمتع بها .. و قد يجد أن ما عداها من موسيقات الشعوب ..بدائيا .. يسمعه من باب التغيير . .
جميع الفنون .. تأتي من نبع واحد .. و تتفرع إلي أنهر مستقلة .. و لكن كلها يجمعها ما يسمي بفلسفة الجمال .. أو قياسات الجمال .. (aesthetic) ستجد هذا في الشعر و القصة و المسرح و الموسيقي و الرسم و النحت و الحلي و الملابس و العمارة و الأثاث .. و كل مايستخدمه البشر . ( تعبتكم النهاردة نكمل الحديث باكر )
بعد أن إستعرضت ما قدمة لنا (سلامة موسي) في كتابه فن الحب و الحياة عن مسيو (دوبريه).. لرؤيته عن من سيكون مثقفا .. و مقارنته بما حصلناه بالمدرسة و الجامعه .. ندرك أن نظم التعليم في بلدنا المبنية علي الحفظ و الإسترجاع .. تمثل عاهه و عقبة أمام أن يصبح أى منا مثقفا .. و أن الخروج من الكهف يتطلب بذل جهد و عمل .. قد يستغرق سنين ..من التثقيف الذاتي .. و لكنها ستكون سنين ممتعة .. لو تحول الأمر من مهمة وواجب .. إلي هواية و حب إستطلاع.. من .. )تاسك( علينا تحقيقة .. إلي ..حياة نعيشها في نور المعرفة ....
و هكذا علينا أن ننتهي من حيث بدأنا ((الإنسان هو الكائن الوحيد ( في حدود معرفتنا ) القادر علي الإدراك.. وذلك بسبب عاملين .. أحدهما أنه يستطيع بواسطة اللغة (منطوقة أو مكتوبة ) تخزين المعلومة (أى التجربة ) ثم إستعادتها ..))
لغة الأم هي تلك التي تتحدث بها لطفلها فيلتقطها منها .. لتصبح لغته الأصلية التي يتواصل بها مع الأخرين و يتعلم بها و يكتب و يفكر بواسطتها
في بلدنا لغة الأم شكلتها العوامل الجغرافية و التاريخية .. فرغم أن أساسها لغة عربية اللهجة اليمنية القادمة مع القبائل التي إحتلت مصر بعد الغزو العربي .. إلا أنها مطعمة بالمصرية القديمة ( القبطية ) و بلغات شعوب عدة مثل الفارسية و التركية و اليونانية و الرومانية (الإيطالية ) و الفرنسية و الإنجليزية . تستطيع أن تجد علي شبكة التواصل العديد من الأمثلة لذلك.
اللغة المصرية ليست واحدة .. إن ما نسمعة في السينما و المسلسلات و ما نقرأة في الجرائد هو لهجة أهل القاهرة و هناك لهجات أخرى حسب المناطق الجغرافية بدأ بأهل أسوان و الأقصر .. مرورا علي الأسايطة و المنياوية .. و إنتهاء باللهجة الأسكندراني أو البورسعيدى ..
اللغة المصرية لغة شفاهية .. لها قواعدها الخاصة .. التي تختلف عن النحو العربي نحن نقول الراجل اللي .. و مراتة اللي .. و أولادهم اللي .. و بنتينهم اللي ..و نعمل (باى باص ) علي كل قواعد النحو العربي . الراجل بتاع الخضار .. و الست بتاعة الفلافل .. و الولدين بتوع فريق الكرة .. و البنات بتوع الكورال ..
و ننفي بكلمة واحد (مش عايز)..( مش رايح)..( مش واخد بالك ).. (مش حتتعشوا) .. كتاب كثيرون جالوا و صالوا في إختلاف اللغة المصرية عن اللغة العربية بحيث يمكن إعتبارها (أى العربية ) لغة أجنبية .. عكس لغة الأم .. كتاب (بيومي قنديل ) بهذا الخصوص (( حاضر الثقافة في مصر )) يستحق القراءة .
اللغة المصرية لغة تعامل يومي .. و لكنها تبعد كثيرا عن الفلسفة و العلوم و المنطق .. لقد توارثها الأبناء عن الأجداد .. أضافوا لها .. و جنبوا بعض الألفاظ طبقا لمتطلبات العصر .. و لكن عندما يتحدثون عن منتجات العالم الخارجي يستخدمون نفس المصطلحات .. النت .. ست أب ( صطبه ) التليفون .. الجيم .. اللاب توب .. الكومبيوتر .
لذلك فإن أول مهام بدء الطريق نحو عالم الثقافة سيكون تقوية و تمكين لغة الأم من الفلسفة و الرياضيات و المصطلحات العلمية .... ثم تحويل اللغة المنطوقة لاخرى مكتوبة ذات قواعد و إسلوب كتابة بحيث يتطابق المنطوق مع المكتوب .. و بالطبع لا أقصد تلك الموضة التي سارت بين المراهقين .. بكتابة ما يريدون بحروف لاتينية .
تحويل اللغة المصرية (الدارجة ) إلي لغة علوم و فنون .. و فلسفة سيحميها من تلك التشوهات التي نسمعها متداولة بين الشباب و تعبر عن كبتهم الجنسي .. أو قلب المعني فلن نسمع الأنسة جاسمين و أمها يعبران عن إعجابهما بتعبير ( الأكل فظيع ) بمعني فائق الإتقان ..(الملابس فظيعة عجبتني قوى ) بمعني أنها شديدة الجمال .
اللغة العربية التي من الواضح أنها ليست لغة الأم .. يتعثر الطلاب في إستيعابها .. فهو علية ترجم ( مش عايز ) إلي ( لا أريد ) .. و تحويل (البنتين اللي في الشارع) إلي ( الفتاتين اللتين يقفان علي ناصية الطريق ) مع إضطراب شديد في إستخدام النحو .. يا ترى هي .. (قادمون) و لا (قادمين )
ضعف اللغة المصرية أدى إلي ضعف التعبير بها و حشر العديد من الألفاظ الأجنبية للتوضيح .. تشويش .. و عدم إتزان وفقد القدرة علي التواصل مع العلوم بلغة الأم . بحيث أن محاولة تعريب العلوم أثبت فشلة .. فحتي العربية التي لا تمتلك مرونه و حيوية التعبير عن كثير من المعاني و المصطلحات ..أعتبرت أجنبية .. بمعني تحويل المعني من أجنبي لأجنبي أخر .
يقودنا هذا إلي أن علي المثقف لكي يطلع علي مفردات العصر و علومه أن يتعلم و يتقن لغة حية ( إنجليزى / فرنسي / الماني )..
نحن لا نبدع لأننا نفكر بلغة الأم و نكتب بلغة عربية غريبة عنا .. و كلاهما قاصرة عن إستيعاب المفردات العلمية المعاصرة .