سحر الجعارة
نحن ننفرد بأننا أكثر شعوب الأرض «كلاماً» وآخرهم أفعالاً.. ورغم جلسات النميمة الطويلة ونقل الشائعات فإننا آخر من يهتم بـ«المعرفة» ولو قليلاً.. وكأن لدينا غريزة عدائية للمعلومة، وخاصة إذا كانت معلومة طبية أو علمية، ففى هذه الحالة ستقفز فى وجهك مقولة: «اسأل مجرب ولا تسأل طبيباً».. وتسمع كل «الوصفات البلدى» حتى تكره الطب والأطباء، لأن عبارة «جارتى قالت لى» أهم من روشتة الطبيب.. فدعونا نسأل: كيف لجارتى وصديقتى وسيدة لا أعرفها أن يلعبن دوراً مهماً فى علاقتى بـ«المرض».. كيف يصبح الغريب هو «الوسيط» الأمثل لعلاقتى بالأدوية المتناثرة حولى وتوقيت زيارة الطبيب والعناية الشخصية والمتابعة الدقيقة لحالتى؟
فى كل دول العالم، بل وفى مصر أيضاً، ما يسمى بالجمعيات «الحاضنة للمرضى»، وغالباً، (فى العالم المتقدم)، ما تستعين تلك الجمعيات الأهلية بأشخاص مروا بتجارب مماثلة، وتعرضوا لنفس الضغوط البيولوجية والنفسية، وقد تكون حياتهم المهنية تعطلت.. أنا أتحدّث عن الأمراض المستعصية أو المتفشية إلى درجة «التوطن» فى بلد معين.. عن أمراض مثل الإيدز والسرطان والتهاب الكبد الفيروسى المزمن C.. عن نقل الأعضاء وما يستتبع زراعتها من أدوية تُضعف أداء جهاز المناعة وتحتاج إلى وعى خاص واحتياطات دقيقة.
نحن بالفعل قطعنا شوطاً هائلاً فى القضاء على الفيروس C، وبدأت حملة «الكشف المبكر» عن سرطان الثدى تحديداً.. وخرج العديد من المشاهير يروون قصتهم مع المرض وسبل مواجهته والتغلب عليه.. وربما كان آخرهم الإعلامى «شريف مدكور»، الذى خضع لعملية جراحية استأصل فيها السرطانى'> الورم السرطانى وجزءاً من القولون، ويخضع حالياً لجلسات الكيماوى، ثم خرج علينا -مؤخراً- ليعلن أنه مصاب بفيروس فى الدم بسبب «قلة مناعته لتلقيه العلاج الكيماوى» عقب بدء رحلة علاجه من سرطان القولون، فقد أصر «مدكور» على أن يواصل عمله ويقود سيارته بنفسه، ولم يلتزم بتعليمات الأطباء الخاصة بمنع انتقال العدوى، ومنها «عدم مصافحة أى شخص أو تقبيل أحد» وغيرها.. فكان يمارس حياته بشكل طبيعى؟
لو كان إلى جوار «شريف» شخص تعرّض للعلاج الكيماوى أو الإشعاعى لنصحه وأصر على منعه من التفريط فى جسده بترك جهازه المناعى ينهار بسبب الأدوية.. وهنا يأتى دور جمعيات الدعم والمساندة، التى تتشكل غالباً من متطوعين مروا بنفس الخبرة السيئة وقرروا مساندته، وأحياناً مرافقة مرضى آخرين لتقبُّل المرض أولاً والتصالح معه ثم تجاوز مرحلة العلاج بأقل خسائر ممكنة.
لقد رأينا مثل هذه المجموعات فى أعمال فنية تتعلق بإدمان المخدرات أو مرضى السرطان، لكنها على أرض الواقع مختلفة، فمعظم الجمعيات الأهلية فى هذا المجال تعتمد على موظفين أو متطوعين لم يمروا بمحنة المرض.. لم يختبروا صدمته النفسية أو تبعات العلاج منه، فمثلاً أى سيدة قد لا تتفهم جيداً معنى سقوط شعر «مريضة السرطان» عند تلقى العلاج الكيماوى، ولا تدرك إحساس أنثى تم استئصال أحد ثدييها، لأنها لم تتعرض لمرض ينزع عنها أنوثتها أو يجردها من بعضها، ولو لمرحلة العلاج، ثم تعود إلى حالتها الأولى.. فى مثل هذه الحالة تكون «الأنثى» التى ذاقت مرارة تجربة مطابقة هى الأقرب إلى القلب والعقل والمنطق.
أنا لا أتحدث عن «معجزة» أو عملية معقدة، وأعلم أن معظم المرضى لا يحبون تذكر ماضيهم المؤلم بين غرف العمليات وتعاطى العقاقير الطبية، لكنى أعلم أيضاً أن ملايين الحالات فى العالم تكرر نفس نموذج المعاناة بنفس السيناريو والتفاصيل القاسية.. وأحياناً لا يجد بعضهم من يمد له يد العون!
لقد كانت نجمة هوليوود، و«أيقونة الأنوثة» المشتهاة، «أنجلينا جولى» هى أجرأ من اقتحم المرض عالمه فقرر أن يقهره على الملأ، وقررت لؤلؤة السينما الأمريكية أن يراها العالم «صلعاء» تماماً وهى تعلن أنها حذفت من أبجدية أنوثتها النهدين والمبيضين، بعدما علمت أنها حاضنة للجين المتحور (BRCAI)، وفى حال لم تستأصل ثدييها فإن نسبة إصابتها بمرض سرطان الثدى تبلغ 87 فى المائة، وذلك بسبب الجين المسبب للمرض الذى ورثته من والدتها.. وقد توفيت والدتها فى سن الـ56 عاماً بعد إصابتها بالسرطان.
العالم الذى صُدم بقرار «جولى» لم يرَ الوشم الذى حفرته على ذراعها باللغة العربية: «عزيمة».. ولم يدرك أن قرار المرأة «الأكثر تأثيراً على مستوى العالم» سيزيد من نسبة إقبال النساء على الكشف المبكر عن السرطان، ولا أنه سيخلق وعياً بخطورة هذا المرض وانتشاره الواسع بين النساء تحديداً (سرطان الثدى يصيب شخصاً من كل 500 فى العالم).
وتحولت النجمة السينمائية إلى «أيقونة للإنسانية»، خاصة بعدما كرّست ثروتها ونجوميتها وأنفاسها المتبقية على الدنيا للمحرومين والمقهورين فى كل مكان.. وغلّفت قلبها بأوراق الورد لتوزعه على ضحايا الحروب والمجاعات والإيدز.
إنها نموذج حى يؤكد أن «المريض السابق» هو أفضل صديق ورفيق للمريض الحالى.. لكن فكرة «التكافل الإنسانى» غائبة من أجندة المجتمع المصرى، لأن «العمل التطوعى» لا زال مرهوناً بقضايا نسوية بحتة ولأن البعض يعتبره -أحياناً- اقتحاماً لخصوصية مريض هو فى الحقيقة يصدر استغاثة لا نسمعها!.
نقلا عن الوطن