محمد حسين يونس
منذ عصر ما قبل التاريخ .. كان لكل قرية مصرية كائنا مقدسا (نتر ) يلتفون حوله .. و يحملون رموزه و اعلامة التي تتصدر المعارك مع القرى المجاورة ... و عندما كان ينتصر فريق منهم كانوا يوعزون النصر لقوة (نترهم ) المحلي ..
بمرور الوقت توحدت هذه الكائنات المقدسة لتكون فريق من (النترات ) تاسوع مقدس يسوس البلاد و يحميها .. و كان لكل نتر مكان يحج إليه سواء في القرية أو المدينة أو الإقليم أو الوجهين البحرى القبلي بكاملهما .. و كان يرأس تاسوع النترات هذا النتر الأكبر باريء نفسة و خالق كل ما في الكون .. و مسيره
هذة الكائنات الخيالية المحلية أو العامة .. ظل المصرى محتفظا بها في ذاكرته الجمعية يحتفل بميلادها .. و بالأحداث الهامة التي شاركت فيها و يحكي الأجداد للأبناء عن مأثرها وقدراتها و إنجازتها .
المصرى مع تغير انظمة الحكم و الديانات .. ظل محافظاعلي كائناته الأثيرة .. و إن غير الأسماء و لم يغير الجوهر .
وبقي هذا قائما مع الفرس و اليونان و الرومان .. وفي الزمن المسيحي .. و في زمن المسلمين السنة وإستمر مع الشيعة الفاطمية..علي الرغم من أن المعز . ... ((منع القبط مما كان يعمل فى يوم النيروز من صب المياه على الناس فى الطرقات ووقود النار فى تلك الليلة ومنعهم أيضا مما كان يعمل فى ليل الغطاس من نزول المراكب وضرب الخيام على شاطئ النيل قبالة المقياس...وهدد من يفعل ذلك بالشنق)) .
المصريون ظلوا يحتفظون في قراهم و مدنهم بمقامات (النترات ) بعد أن سموهم بما يرضي الحكام الجدد (الملتفين حول أهل البيت ) باولياء الله الصالحين الذين يحملونهم بنفس الصفات و المعجزات القديمة و يقيمون لهم الموالد .. و حلقات الذكر و يوزعون الحلوى أو بعض الأطعمه في الليلة الكبيرة لأولياء متخفيين تحت أسماء أهل البيت .. أو أصحاب المعجزات
في زمن حكم الفاطميين إنتشرت الطرق الصوفية بأعلامها و أغانيها و رقصها ..و نغموا تلاوات القرآن و الأذان و الصلاوات .. و أصبح للإسلام المصرى لقرنين( 358 هجرى - 569 هجرى) من الزمان مذاق خاص .. يختلف عن باقي الأقطار ..إختلط فية الموروث .. وما جاء به الأمازيج مع طقوس الدين الجديد وظل قائما لما بعد أفول نجم الشيعة الفاطمية .
حكم مصر من جوهر الصقلي حتي الناصر صلاح الدين الأيوبي عدد 11 خليفة فاطمى أى بمعدل 19 سنة لكل خليفة وهم :
المعز لدين الله ـ العزيز بالله ـ الحاكم بأمر الله ـ الظاهر لدين الله ـ المستنصر بالله ـ المستعلى بالله ـ الآمر بأحكام الله ـ الحافظ لدين الله ـ الظافر لله ـ الفائز بنصر الله ـ العاضد بالله .
وكلها ألقاب أملاها المعز عندما طلب منه بعض العلماء تزويدهم بألقاب تصلح للخلافة (( فإذا ما تولى أحدهم لقب بها )) .
معظم هؤلاء الخلفاء مات مقتولا .. و البعض تولى صبيا حتى أن أحدهم كان عمره ست سنوات عندما بايعوه على الخلافة.. و الكثير منهم كان مختلا عقليا حتى أن أحدهم ادعى الألوهية وطلب من الرعية الركوع له وواحد منهم فقد حياته لهيامه بابن ( ليس ابنه ) وزيره.
المعز لدين الله كان رابع خلفاء بنى عبيد الله الذين كان مقرهم المغرب ثم أنه (((أرسل قائده جوهر وكان خصيا صقلى الجنس على رأس مائة ألف فارس فملك مصر من غير قتال ولا مانع.. يوم الجمعة 19 شعبان 358 هـ)) .. ليصبح ثانى خصى يحكم مصر لحين حضور سيده بعد 4 سنين فى شهر رمضان سنة 362
جوهر الصقلى بعد استقراره فى مصر أمر المؤذنين أن يجهروا فى الأذان (( بحى على خير العمل ))والدعاء لعلى وفاطمة والحسن والحسين و آل المعز لدين الله قائد الإيمان إعلانا على تحول مصر من المذهب السنى الى المذهب الشيعى .و أسس مدينة القاهرة ( المعزية ) و أحاطها بسور .. و أقام الجامع الأزهر للدعوة لمبدأ الفاطميين .
المعز عندما دخل مصر حمل معه رفات أجداده فى صناديق من خشب ودفنها فى مدفن أسفل خان الخليلى الآن حتى تم نهبها مع الشدة المستنصرية وتدمير المقابر
و كان يسب العباسيين حتى فى خطبه من على المنبر ((نحن أفضل من خلفاء بنى العباس لأننا من ولد فاطمة بنت الرسول )) .
وعندما سأله ابن طبا طبا العلوى عن نسبه جذب نصف سيفه من غمده وقال هذا نسبى ثم أحضر أكياسا فيها ذهب وفرقه على الجند وقال وهذا حسبىومنذ ذلك صارت مثلا (( سيف المعز وذهبه )) و دستورا للحكام الفاشيست الذين جلسوا علي عرش مصر .
المعز بعد أن استقر هاجمه الحسن بن أحمد القرمطى من الخوارج بجيش كثيف من العساكر .. وكان معه الأمير حسان بن الجراح الطائى الذى رشاه المعز بمائة ألف دينار فانسحب أثناء المعركة مظهرا أنه انكسر فضعفت شوكة عسكر الحسن بن أحمد وانهزم وولوا مدبرين , قال بعض المؤرخين (( إن ذلك الذهب الذى أرسله المعز لحسان كان زغلا أى نحاس ملبس بالذهب فجعل الخالص فوق الأكياس والذهب النحاس أسفله)) .
أيام المعز خرج (عرب ) بنو هلال على الحجاج فقتلوا منهم خلقا كثيرة وكان بنو سالم قد قطعوا الطريق من قبل على الحجاج و اخذوا منهم عشرين ألف بعير محملة قماش وبضائع ومال و أسروا الرجال والنساء
خليفة المعز الأمير العزيز بالله اتخذ لنفسه أول وزير من النصارى سنة 380 هـ يدعى نسطورس على مصر و أول وزير من اليهود يدعى منشاه على الشام فكتبوا له (( بالذى أعز النصارى بنسطورس و أعز اليهود بمنشاه و أذل المسلمين بك الا رحمتهم و أزلت عنهم هذه المظالم )) .
ماذا فعل العزيز ؟
((أمر بشنق الوزير نسطورس فشنق على باب قصر الزمرد فى ذلك اليوم ثم أرسل الى الشام بشنق اليهودى منشاه فشنق على باب قلعة الشام ))... . ألم أقل انهم كانوا خلفاء مختلى العقل .
الحاكم بأمر الله هو نموذج الخليفة المخبول (( صار يفعل أشياء لا تقع إلا من المجانين الذين فى عقلهم خلل فمن ذلك منع النساء من الخروج الى الطرقات ومن التطلع من الطاقات والطلوع على الأسطح ومنع الخفافين من عمل الأخفاف لهن ومنع سائر النساء من الدخول الى الحمامات فمر يوما بحمام فسمع ضجيج النساء فأمر بأن يسد عليهن باب الحمام فسدوه عليهن من الوقت والساعة وهو واقف عليه فأقمن داخل الحمام حتى متن به)) .
((وهو قد منع بيع الزبيب و أمر بحرق الكروم ومنع بيع العسل الأسود كذلك منع زراعة الملوخية لأن عائشة كانت تميل إليها والقرع لأن أبو بكر كان يميل إليه ثم نهى عن أكل الرطب وزرع الترمس ثم أمر بقتل الكلاب فقتل منهم نحو ثلاثين ألف كلب )) .
((ثم أمر الناس بأن يغلقوا الأسواق بالنهار ويفتحوها بالليل وجعل الليل مقام النهار فى جميع أحوال الناس كلها فامتثلوا ذلك واستمروا عليه دهرا طويلا )) .
الحاكم هذا هو (( الذى أمر اليهود بأن يعملوا فى أعناقهم إذا خرجوا الى الأسواق قرامى خشب وزن كل قرمة خمسة أرطال و أمر النصارى بأن يضعوا فى أعناقهم صلبانا من الحديد قدر كل صليب ذراع ... ))و هذا هو سبب إطلاق ( عظمة زرقه ) علي مسيحي مصر .,
((ولقد كان يسير فى الأسواق ومعه عبد أسود طويل عريض فإذا وجد أحدا من السوقة غش فى بضاعته أمر العبد مسعود ذلك بأن يفعل به الفاحشة العظمى وهى اللواط فيفعل به على دكانه والناس ينظرون إليه حتى يفرغ منه والحاكم واقف على رأسه وقد سار مسعود هذا مثلا عند أهل مصر إذا خرج بعضهم مع بعض يقولوا (( أحضر له مسعود )) .
الحاكم فى النهاية ادعى الربوبية من دون الله تعالى فكان إذا مر فى الطرقات يسجدون له ويقولون(( يا محى يا مميت )).. ومن لم يفعل ذلك يضرب عنقه وفى النهاية قتل فى نصف شوال سنة 411 هـ بعد 25 سنة حكم .
الظاهر لدين الله تولى وعمره 16 سنة فأعاد ما كان يعمل فى ليلة الغطاس وان أمر ألا يختلط فى هذا العيد النصارى مع المسلمين عند الغطاس .
ومما يحكى عن الخليفة الظاهر(( جمع كل الجوارى حتى لم يبق بمصر والقاهرة جارية وبعد أن لبسن أحسن الأثواب الفاخرة أمر أن يجعلن فى مجلس ويسد عليهن باب المجلس فبنى عليهن أبواب المجلس وتركهن ستة أشهر ثم بعد ذلك أضرم عليهن النار حتى أحرقهن عن أخرهن وكان عدتهن ألفين وستمائة وستين جارية ومن شابه أباه فما ظلم )) .
المستنصر بالله اشتهر بالشدة المستنصرية سنة 451 هـ (( إذ انهبطت مياه النيل فشرقت البلاد وحصل على الناس ما لا خير فيه ووقع الغلاء العظيم سبع سنين متوالية فأكلت الناس بعضها بعضا و أكلت الناس الميتة والكلاب والقطط حتى قيل أن بيع كل كلب بخمسة دنانير وكل قط بثلاثة دنانير . ( عن ابن أبى حجله فى كتاب السكردان ) ثم اشتد الأمر حتى صار الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله ولا ينكر عليه ذلك بين الناس ثم اشتد الأمر حتى صار الناس إذا مروا فى الطرقات وقوى القوى على الضعيف فيذبحه ويأكله جهارا ..))
وكفى هذا من يريد المزيد فليطلع على كتاب ابن اياس صفحة 217 ليعرف أن ثلث أهل مصر فنى حتى اضطر الجنود أن يزرعوا بأنفسهم وذلك لعدم وجود الفلاحين .
فى هذا الزمن ادعى الكورانى أنه المهدى وكان له أتباع و ادعت زوجته أن جنينها يتكلم فى بطنها 458 هـ
بعد المستنصر جاء المستعلى بالله وفى زمنه ((استولى الفرنج على بيت المقدس وملكوه وقتلوا جماعة كثيرة من أهل القدس وأقاموا مالكين بيت المقدس نحو ثلاث سنين )).
الآمر بأحكام الله ابن المستعلى كان((صغير السن طائش العقل تجاهر بالمنكرات واشتغل بسماع الزمور وشرب الخمور ...... وصار الناس مثل الغنم بلا راع فاضطربت الأحوال بمصر)) .
الفرنج فى ذلك العهد استولوا على مدينة عكا وطرابلس ونابلس و أشرف ملك فرنسا ـ بردويل ـ على أخذ مصر فوصل الى العريش ولكنه توفى هناك . ...الآمر بأحكام الله مات مقتولا ..
.
أما الحافظ فقد كان على العكس حليما لين الجانب قليل الأذى فطمعت فيه الرعية و اضطربت الأحوال فى أيامه واستولى الفرنج على أغلب البلاد وطمع الفلاحون من أهل مصر و امتنعوا عن وزن الخراج .
الظافر بالله دفع حياته ثمنا لهيامه بابن وزيره عباس (( لما كثر الكلام فى حقه بسبب ابنه نصر )) .
الفائز تولى الحكم بعد مقتل أبيه وعمره ست سنوات وفى عصره حدث الطاعون أفنى ثمانية عشر قرية.
العاضد بالله أبى محمد عبد الله كان آخر الخلفاء الفاطميين وفى عهده استولى الفرنج على ثغر دمياط ونهبوا أسواقها وقتلوا أهلها ثم زحفوا على الضياع و أكثروا القتل والسبى ثم وصلوا الى بلبيس وكسروا عساكر الفسطاط ودخلوا القاهرة من خلف السور من عند البرقية ثم توجهوا الى بركة الحبش وصاروا يقتلون من وجدوه من المسلمين وقرروا على أهل مصر والقاهرة أموالا جزيلة و أخذوا فى أسباب جبايتها .
الوزير شاور أشار على العاضد بحرق الفسطاط خوفا من الفرنج أن يملكوها فأذن لهم فى حرقها فأقامت النار عماله فيها نحو شهرين وكان يرى دخانها من مسيرة ثلاثة أيام.
العاضد استجار بنور الدين الشهيد صاحب دمشق فأرسل له القائد الكردى أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين ومعهما العسكر فخاف الفرنج ورحلوا الى بلادهم .
أسد الدين شريكوه شنق الوزير شاور بتهمة التخابر مع الأعداء واستقر فى مصر وزيرا للعاضد لمدة شهرين وخمسة أيام مات بعدها ليحل محله صلاح الدين الأيوبى.
صلاح الدين أبطل أن يقال فى الأذان (( حى على خير العمل )) والدعاء لعلى وفاطمة والحسن والحسين وعزل قضاة مصر كلهم لأنهم كانوا شيعة معلنا عودة السنية الشافعية (( وأقام مجد الشافعية دون غيرهم من المذاهب ))
ثم أن صلاح الدين قويت شوكته حتى أصبح العاضد كالمحجور عليه لا يتصرف فى شئ من أمور المملكة حتى يعرضها على صلاح الدين , انتهى الأمر بقطع الدعاء للعاضد والدعاء للخليفة المستضيئ بالله العباسى (( فلم يتكلم أحد من الناس و لا أنكر عليه فى ذلك )) .
((لما حدث هذا ابتلع العاضد فص من الماس فمات فى ليلته )) .. وانتهى حكم الفاطميين
والقارئ سيعجب من هذا الشعب الذى تحمل لقرنين من الزمان مثل هؤلاء المخابيل دون أن يثور ..بل كيف أصبح السلوك اليومى لهم هو اللامبالاة فجميع الغزاة كانوا فى ظلمهم سواء .. و المصرى كان يعرف أنه سيدفع ما بين يديه لهم لا فارق بين من قدموا من الشرق أو الغرب أو حتى من الشمال .