المطران / كريكور أوغسطينوس كوسا
ولِدَ لكم الیوم مخلص (لوقا ٢:١١) :
الخبرُ المُفرح العظیم ھو بدایةُ عھدٍ جدید في حیاة الإنسان والعالم، خبر یقود إلى بیت لحم'> مغارة بیت لحم، إلى یسوع المسیح، طفل المغارة، فادي الإنسان ومخلصِ الجنس البشري. إنّه عھدُ انتصارٍ على الظلمة، عھدُ السلامِ والرجاء في الأرض ومجدُ ﷲ في السماء "المجدُ في العُلى! وعلى الأرَْضِ السلام وللناس المسرّة" (لوقا ٢:١٤).
نحتفل بعیدِ میلادِ الربِّ یسوع المسیح، راجین أن یولدَ في قلوبنا لكي نلتزمَ ببناءِ عھدٍ جدید في عائلاتنا ومجتمعاتنا ووطننا. ونسأله أن یفیضَ علینا نعمه وسلامه، فنخرج للقاء طفلِ المغارة بفرحِ رعاةِ بیتَ لحم، مسبحّین ﷲَ على كلِّ شيء بأعمالِنا ومبادراتنا الجدیدة التي تدل على التزامِنا في بناء عھدٍ جدید.
المیلاد فرح عظیم یعم الشعب بأجمعھ (لوقا ٢:١٠) :
لیست البشُرى "بفرح عظیم" خبراً من الماضي یقفُ عند زمانه بل ھي خبرٌ متجدِّدٌ في كلّ یومٍ ومكانٍ وزمان، وخبرٌ الملائكة لنا الیوم، ھو نفسه الخبرُ والفرح العظیم الذي أعُلن یوم ولِدَ یسوع. إنه كلمةُ ﷲ، كلمةُ الحیاة والنور، الذي صار بشراً "والكلمة صار بَشَراً فسكن بیننا" (یوحنا ١:١٤)، والذي یریدُ أن یكونَ "ھذا البشر الجدید" في قلبِ وحیاةِ كلّ إنسان.
احتفالُنا بذكرى میلادِ المسیح الفادي والمخلّص ھو بالحقیقة احتفالٌ بمیلادنا معه لولادة جدیدة بكلمة الإنجیل ونعمة الأسرار الكنسیة المقدسة. نحن نتمثل میلاده وثماره في المغارة والشجرة، لكي یولد المسیحُ في قلوبنا وضمائرنا، ویجعلَ منّا جسدَه الحيّ، وأن تتلألأ فینا الفضائل الإلھیة والإنسانیة، والقيم الاجتماعیة والوطنيّة.
المیلاد حیاة جدیدة:
بالمیلاد بدأت حیاة جدیدة، ونحن الیوم مدعوّون لنعیشَھا عھداً جدیداً في كل مكانٍ وجدنا فیه. لا یمكن البقاء في ماضي الأمس المظلم، ماضي الرؤیة الضیّقة والموقف المتحجّر، ماضي الرأي الجامد والنظرة القصیرة، ماضي الحقد والبغض والكراھیة، ماضي المصالح الشخصیة المُقفلة على المصالح العامة. فالبقاءُ في ماضي الأمس القدیم الحالك موتٌ في الحاضر والمستقبل. إنّ سیّد التاریخ ھو ﷲ، أمّا الإنسان، كل إنسان، فھو معاونُ ﷲ في صنع التاریخ. إنّھا مسؤولیةٌ تأتي كلّ واحد وواحدة منّا في موقعه وعمره وحالته ومكانته ومسؤولیته.
في ھذا العھدِ الجدید أتانا خبزٌ من السماء، خُبز الحیاة (یوحنا ٦:٤٨)، ھو خبزُ ودم كلمة ﷲ التي ھي الكلمة المتجسّدة، یسوع المسیح، ھذا الخبز وُلد في مدینة الخبز "بیت لحم" وبیت لحم تعني: "بیت الخبز". وھذا الخُبز یدُخلنُا في عھدٍ جدید مع ﷲ والناس. إنّه خبزُ الحقیقة المطلقة التي تنیر وتحرّر وتوحّد جمیعَ الناس. وھو خبزُ المحبّة والعطاء الذي یجعل من المسئولیة والسلطة خدمةً تتفانى حتى بذل الذات. وھو خبزُ السلام المزروع من ﷲ في قلب الإنسان، لكي نصنعه.
سلاماً اجتماعیّا مبنیّاً على العدالةِ بكلّ وجوھھا. سلاماً اقتصادیّا مبنیّا على شروطِ الحیاة الكریمة، وعلى إنماءِ الشخص البشري والمجتمع. سلاماً وطنيّا مبنیّا على احترامِ حقوق المواطنین بوجود دولةٍ تؤمّنُ لھم، من خلال مؤسساتھا الدستوریة والعامّة، الخیرَ العام الذي یشمل كل شروط الحیاة الاقتصادیة والثقافیة والاجتماعیة والأمنیة. دولةٍ یكون الولاء لھا أوّلا ً وآخراً، ویحترَمُ فیھا الدستور والمیثاق الوطني وصیغة العیش المشترك بین الشعوب بالمساواة والمشاركة المتوازنة في الحكم والإدارة.
المیلاد مصدر قیمتنُا وكرامتنُا:
بمیلاد السید المسیح، نحنُ مدعوّون لنحققَّ ھذا العھدَ الجدید في حیاتنا. فلنسُرعْ إلى ھذا الالتزام، كما أسرَعَ رعاةُ بیتَ لحم إلى المغارة (لوقا ٢:١٦)، ورجعوا حاملین الرجاءَ والفرح. وكما سارَ المجوسُ من المشرق البعید وبحثوا عن الطفل، الملكِ الجدید المولود (لوقا ٢:١)، لنبحث نحن أیضاً عن ھذا الطفل العجیب (أشعیا ٩:٥).
نتمنىّ أن یكونَ مجیئُنا إلى أمام مغارة المیلاد دخولاً في حیاةٍ جدیدة، ومنطقٍ ومقصدٍ جدید، وانقلاباً على ماضٍ عقيم غیرِ مجدٍ. فالمسیحُ یسوع، الذي نُحیي ذكرى میلاده "كان النور الحقّ الذي ینُیرُ كُلّ إنسان" (یوحنا ١:٩). نورٌ سطعَ في ظلمات اللیل، لكي یسطعَ كل یوم في ظلمات حیاة كلِّ إنسانٍ وجماعة وشعب، نعني بھا.
ظلمات روحیة وفكریة وثقافیة . ظلمات الخطیئة والشّر. ظلمات الكذب عبر وسائل الإعلام والتقنیّات الجدیدة التي تأسر عقل صاحبھا، وتكذّب الحقیقة الواضحة. ظلماتِ الحقد والبغض والعداوة .
طفل المغارة رئیس السلام:
في ھذا الیوم المملوء نورًا، یرن صدى بشارة أشعیا النبوية: "لأنه قد وُلدَ لنَا وَلدٌَ وأعُطِيَ لنَا ابنٌ، فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه، ودُعِيَ اسمُه عَجیباً مُشیرا ً إِلھاً جَباراً، أبَا للأبَدَ، رَئیسَ السلام" (أشعیا ٩:٥).
إن سلطة ھذا الطفل العجیب، ابن ﷲ ومریم البتول، لیست من سلطة ھذا العالم التي ترتكز على القوة والمجد والغنى، إنما ھي سلطة المحبةّ والسلام. إنھا السلطة التي خَلقتْ السماء والأرض، والتي تھَِب الحیاة لكل خلیقة.
تجول الیوم بشارة السلام الأرضَ بأسرھا وترید أن تبلغ إلى جمیع الشعوب:
سلام لبلاد الشرق الأوسط المعذبة، لقد حان الوقت لتصمت الأسلحة ویعمل المجتمع الدولي لاحترام حیاة وحقوق الإنسان وكتابة صفحة جدیدة من التاریخ لبناء مستقبلَ تفاھم وانسجام متبادل. ولتعود الوحدة والتوافق إلى كل البلاد حیث یعاني السكان من الحرب ومن الأعمال الإرھابیة الوحشیة. سلام للأطفال، في ھذا الیوم الأغر الذي صار فیه ﷲ طفلاً، ولا سیما لأولئك الأطفال المحرومین من مباھج الطفولة وفرح العید بسبب الجوع والعطش، والحرب وأنانیة الكبار.
سلام على الأرض لجمیع ذوي الإرادة الصالحة، الذین یعملون بصمتٍ وصبر، في العائلة وفي المجتمع من أجل بناء عالم أكثر إنسانیة وعدالة ً، تساندھم قناعتھم بأنه وحده عبر السلام ھناك مستقبل أكثر ازدھاراً للجمیع.
أیھا الأخوة والأخوات الأحباء:
نحن نؤمن أن النورَ الإلھي یبدّدُ ظلامَ البشر، مثلما یبدّدُ النورُ المادّي ظلامَ الأرض. النورُ الإلھي یفعل ذلك بواسطة أناس مسئولین استناروا بھذا النور، وأصبحوا معاوني ﷲ في تبدید ظلمات الحیاة العائلیة والاجتماعیة والوطنیة . صلاتنُا وتمنیاتنا أمام طفل المغارة، أن یستنیرَ كل واحد منّا بنور المسیح، ویصبحَ نوراً في عائلته ومجتمعه.
صلاتنا أن یشُعّ نور السلام في كلّ بلدان الشرق الأوسط وفِي العالم. بھذا الرجاء وتعبیراً عن أخلص تھانینا وتمنیّاتنا، لنستقبل طفل المغارة بإیمانٍ وفرح ولنحمله بین ذراعینا ونقدمه لجمیع الشعوب قائلین: "ولِد لنا ولِدَ، أعطي لنا ابن ھو: رئیس السلام" ونھتفُ: "وُلد المسیح فمجدوه! ھللویا! ".
نقلا عن فيتو