ما يحدث الان يذكرنا بالايام الاولى عندما كانت البيوت الكنائس ووصفها بولس " الكنيسة التى فى بيتك"
نادر شكرى
قال نيافة الانبا مكاريوس اسقف عام المنيا وأبوقرقاص ، انه فى الوقت الذى اغلقت فيه ابواب الكنائس فى اطار مواجهة فيروس كورونا ، تحولت منازل الاقباط الى كنائس ، وتأتي احتفالات البسخة وعيد القيامة هذا العام في ظروف استثنائية لم تمرّ بها الكنيسة منذ قرون عدّة، فللمرة الأولى لا يجتمع المؤمنون بالكنيسة، سواء من أجل الليتورجيا أو الاجتماعات أو الأنشطة، ولا سيما في هذه الأيام التي لها خصوصيتها عند الأقباط، فقد اُضطُر الشعب إلى الالتزام بالمنازل وعدم الخروج حفاظًا على حياتهم وعلى حيوات الآخرين. وقد تأثر الكثيرون من الشعب، وبكي العديد منهم بسبب افتقادهم للكنيسة.. ولم يكن أمامنا سوى أن تُعدّ كل أسرة مقصورة تضع عليها صورة الصلبوت، وحولها بعض الورود والخوص مع بعض الشموع، لكي يلتفّ أفراد الأسرة حولها، ويصلّون البسخة معًا.
وتابع " إن هذه خبرة نادرة سيجتازها الشعب، أن تتحول البيوت إلى كنائس، أن يأتي المسيح ليحتفل معنا بآلامه وصلبه وقيامته المقدسة، ويتقدس البيت بالصلوات والألحان والميطانيات والدموع، وينشط من جديد المذبح العائلي، ويهتف ربّ الأسرة في اتضاع «وأمّا أنا وبَيتي فنَعبُدُ الرَّبَّ» (يَشوع24: 15)، فقد كلّفته الكنيسة بذلك يوم زوَّجَته، وألبسته الـ"بُرنس" علامة الكهنوت العام فصار كاهنًا للأسرة، وأوصته بأن يقود الأسرة في الصلاة والقراءة والتأمل والتماجيد، وأن يصحبهم معه إلى الكنيسة.
هذه الايام تعيد إلى الذاكرة، الكنيسة الأولى حين بدأت في البيوت، وحين استضافها الرجال والنساء الأتقياء. وكانت أول كنيسة من هذا النوع هي بيت مار مرقس الذي عُرِف لاحقًا بـ"عِلِّية صهيون"، وفي المقابل وصف القديس بولس عدّة بيوت بأنها «الكنيسة التي في بيتك» مثل بيت بريسكلّا وأكيلا وغيرهما. ونحن في مصر -ولا سيما في الصعيد- نعرف كيف بدأت اكثر الكنائس في البيوت، وهناك مئات المنازل عندنا تباركت برفع الذبيحة فيها، وذلك قبل أن توجد كنيسة مستقلة في القرية.
نتذكر في هذه الأيام الأوقات التي تعرّض فيها الكثير من الآباء البطاركة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمُكرَّسين والمُكرَّسات والأراخنة، للاعتقال لسنين طويلة في سجون بلاد كثيرة مثل روسيا ورومانيا، بل وتنيح بعضهم داخل السجون! ولم تكن للمسجونين فرصة لليتورجيات ولا التناول من الأسرار، لا سيما وكانت روسيا الشيوعية تحارب الدين والمؤمنين بشكل عام، حتى أنهم كانوا ياخذون الاطفال ليقيمون في المدارس الحكومية ليعدونهم عن التربية الدينية في المنزل، وفي مرات قليلة كانوا يسمحون للمُعتقَلين فيها أن يصلّوا قداس ليلة عيد الميلاد فقط، بأدنى الإمكانيات وفي ظلّ تضييق شديد.. وبالأمس القريب، تعرّض مجموعة من الآباء لدينا لمثل هذه الخبرة في أحداث سنة 1981م. وكان جميعهم يردّدون في قلوبهم مع يونان النبي قائلين: «ولكنني أعودُ أنظُرُ إلَى هَيكلِ قُدسِكَ».
أتذكر أيضًا الذين يحيون في بلاد بلا كنائس ولا كهنة ولا خدمة، وقد تطول إقامتهم هناك لعشرات السنين، وربما يحتاجون إلى السفر بالطائرة لكي يتقرّبوا من الأسرار في أقرب كنيسة، وحيث كان يُمنَع اصطحاب الكتب المقدسة أو شرائط القداسات أو العظات. وهنا في مصر.. كم من قرية وعزبة ونجع بلا كنائس! وبالطبع لا تُقام عندهم بسخات ولا قداسات، والقليل منهم هو من يستطيع أن ينتقل من قرية لأخرى لحضور الصلوات، بخلاف المتقدِّمين في السنّ والشيوخ والعجائز والمرضى. وأتذكر كذلك القرى التي تتعرّض بين وقت وآخر إلى حظر التجوال بسبب جريمة أو شجار أو أسباب أخرى.
أتذكر أيضًا الآباء السواح والمتوحدين والساكنين في شقوق الأرض، وكيف أنهم كانوا يقضون مثل هذه الأيام من كل عام في مغاراتهم، ومنهم من لم يرَ وجه إنسان لعشرات السنوات؛ وأذكر كذلك الذين لهم تدبير خاص في مثل هذه الأيام.
وأولئك الذين تمنعهم ظروف العمل من مغادرة أماكنهم، وقضوا الكثير من المناسبات والأعياد بعيدًا عن الكنيسة وعن أسرهم.
والكتاب المقدس يخبرنا عن الكثير من اليهود الذين قرّر الرؤساء حرمانهم من المشاركة في ليتورجيات الهيكل، في حالة اعترافهم بأن يسوع هو المسيح، ومنهم المولود أعمى والذي طردوه فوجده يسوع "خارج الهيكل".. هكذا يلتقي بنا المسيح خارج مبنى الكنيسة.
وأتذكر الآن فريقًا آخر، وهم الذين لم يكن لديهم مانع من الاشتراك في مناسبات عظيمة كهذه، سوى التكاسل والتسويف، وربما الاستخفاف بالدين والمتديِّنين، ويدفعهم كبرياء الشباب والعقلانية لعدم الخضوع والتلمذة وطلب الرحمة والبركة. وكم من مرة دعاهم الآباء والخدام، فتراءى كلامهم لهم كالهذيان!
أخيرًا.. لعلنا ندرك الآن، وأكثر من أي وقت مضى، أن الكنيسة ليست مجرد مبنى ولا مؤسسة، ولكنها حركة وتيار..تيارٌ يسري في التاريخ وفي القلب من الداخل، وحياة يحياها الناس، ويحملونها معهم أينما ذهبوا. وفي بعض الأوقات ندخل إلى الكنيسة، وفي أوقات أخرى نحتضن نحن الكنيسة. مرة تذهب الأسرة إلى الكنيسة، وأخرى تستضيف الأسرة الكنيسة.
ولعل من أوصاف الكنيسة الهامة هي "الشاكيناه"، أي: مسكن الله مع الناس. فإذا فرشنا ثيابنا اليوم، وطهّرنا قلوبنا، وفتحنا أذهاننا، وطلبنا إلى الرب بإلحاح أن: تعالَ واسكن بيننا.. فسيأتي التأكيد، ألم يقل بفمه الطاهر: «إليهِ نأتي، وعِندَهُ نَصنَعُ مَنزِلًا»، وهو القائل أيضًا: «لأنَّهُ حَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أو ثَلاثَةٌ باسمي فهناكَ أكونُ في وسطِهِمْ». ألم يقل كذلك إنه يسكن بين شعبه، وهو يكون لهم إلهًا وهم يكونون له شعبًا (حزقيال37: 27). واليوم يشير الرب إلى بيوتنا ويقول: «هذا هو موضع راحتي... ههنا أسكن لأني أحببته..»
كلمة أخيرة: أدرك أن هذا ليس هو الوضع المثالي، وأننا لا يمكن أن نستمر هكذا، وإنما أردت فقط أن أفكر معكم كيف نقضي هذه الأيام مثلما قضاها هؤلاء الأبرار الذين أشرتُ لهم في المقال، واحتملوا ما فيها من الم قدر ما نعموا بما فيها من خبرة روحية خاصة.«فإنَّكُمْ أنتُمْ هَيكلُ اللهِ الحَيِّ، كما قالَ اللهُ: إنّي سأسكُنُ فيهِمْ وأسيرُ بَينَهُمْ، وأكونُ لهُمْ إلهًا، وهُم يكونونَ لي شَعبًا» (2كورِنثوس6: 16)