عادل نعمان
«وإن أمكن أن يستغنى عنها بالكلية (يقصد الخط والحساب) بحيث ينال كمال العلوم من غيرها، وينال كمال التعليم بدونها، كان أفضل وأكمل، وهذا هو حال نبينا، صلى الله عليه وسلم»، مجموع فتاوى ابن تيمية. 25:95. هذا هو رأى شيخ الإسلام في القراءة والكتابة والحساب، والسبب في هذا هو الاحتكام إلى عمومية اللفظ وليس خصوصية السبب، وكأن وراء هذا مصائب المسلمين من الجهاد والغزو والإثخان في القتل وزواج الصغيرات وقتل المرتد وتارك الصلاة وغيرها كثير منذ الأوائل حتى الآن، وفيما استند ابن تيمية إليه حديث الرسول: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، وأن الشهر هكذا وهكذا وهكذا، يعنى مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين، وكان يشير بإصبعه)، فكيف لم يصل علمه وحسن اطلاعه إلى أن هذا الحديث هو إخبار بواقع، وإقرار بقدرات وإمكانيات، ووصف لحال كان الناس عليه، ويستوجب معه حساب الأشهر على قدر إمكانياتهم، فإذا تعذر حسابه فلكيا أو انعدمت الرؤية حسبوه على أيديهم شهرا تسعة وعشرون وشهرا ثلاثون وهكذا، وليس تشريعا أو حكما عاما وجب الالتزام به، ولا نهيا عن التعلم، وبقاء المسلمين أمة أمية على نحو هذا الإخبار.
ولم يأخذ ابن تيمية وغيره الأمر على خصوصية هذا الحديث وظروفه وأحوال الناس، وقد كانت كالآتى (كانت قلة من المسلمين الأوائل تعرف الكتابة والحساب، وخصوصا حسابات النجوم لمعرفة مواقيت الشهور، ولم يكن متاحا هذا للجميع، فعلق حساب الأشهر العربية بالرؤية، أي رؤية القمر بالعين المجردة لتعذر حسابها فلكيا، ومنها معرفة بدايات الصوم وهلال شهر رمضان، والحج والأشهر الحرم، وإذا تعذرت الرؤية أيضا، فيتم حساب الأشهر على النحو المشار إليه، شهرا تسعة وعشرون والآخر ثلاثون وهكذا)، ولم يكن مقصودا القراءة والحساب على عموم اللفظ، بل كان المقصود حساب الفلك فقط، فإذا ما أتيح للناس تعلم حساب الفلك وكافة العلوم وجب الأخذ به، وسلكوا مسالك المتعلمين، هكذا نفهم ونستوعب، إلا أن شيخ الإسلام قد أخذ الأمر على عموم اللفظ، وتغافل عن سبب ورود الحديث وظروفه وأجواء وروده وتاريخه، وقال عنه «هو إخبار، ويتضمن نهيا»، يعنى أنه إخبار بحال المسلمين عن حالهم، ونهى واضح يحمل أمرا بعدم تعلم القراءة والكتابة والحساب، وجمع كل العلوم، ومنها القراءة والكتابة والحساب والعلوم الطبيعية والكيمياء والفلسفة دفعة واحدة تحت هذا الحديث.
ولا أدرى كيف لشيخ يقرأ ويكتب، واسع المعرفة والاطلاع، أن يفهم الأمر على هذا النحو، ويرجح الحديث هذا الترجيح، ويخالفه أيما مخالفة، ويتعلم القراءة والكتابة أيضا، ثم يقول: (من كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة، ويكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرم، ويكون الكتاب والحساب منهيًا عنهما، ومن كان من هذه الأمة فلا ينبغى له أن يقرأ أو يحسب، وهذه الأمة موصوفة بأنها أمة أمية، فمن خرج عن صفة الأمى فكتب أو حسب فقد خرج عن كونه من أمة الإسلام وسلك غير سبيل المسلمين فقد خرج عنها»، وفى موقع آخر يقول: «إن عدم الكتابة والحساب هو حقيقة هذه الأمة وصفتها اللازمة»، وفى موقع آخر يقول: «إنا أمة أمية قبل الشريعة.. هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم.. وهذه صفاتهم قبل البعثة، فهى أمة لا تكتب ولا تحسب، ولم يكونوا مأمورين بابتدائها، لكنهم مأمورون بالبقاء على بعض أحكامه»، ومعنى هذا أنه ليس مطلوبا أن نبدأ مشوار الأمية، فهو موجود قبل البعثة، والمطلوب هو البقاء على أحكام هذه الأمية، خلاصة رأى ابن تيمية في القراءة والكتابة والحساب، فهى وإن كانت وسائل للفضائل والمكارم كقراءة القرآن وكتابته ونسخه، أو كتابة ما ينتفع به الناس، إلا أنها أيضا وسائل للمفاسد وما يضر الناس أيضا كالتزوير مثلا، وإن استطاع الإنسان أن يحقق هذه الفضائل دون أن يتعلم القراءة والكتابة والحساب فهذا هو الأفضل والأوفق لما كان عليه حال الرسول.
وهذا أمر خطير يضاف إلى كثير من المخاطر، إلا إذا وقف هذا العلم عند قدم شيخهم ولم يتعداها، والأمر ليس كذلك، فالكثير من أتباعه على هذا الجهل، واقفون عند أبوابه لا يتحركون. كيف يكون هذا هو موقف شيخهم من القراءة والكتابة والعلم، ويأخذون عنه ويقتنعون بأفكاره، وكان أولى أن يرفضوه بالكلية إذا كان الجهل بالعلوم أدواته وعنوانه، ثم نقول له ما له وعليه ما عليه؟ لا يا سيدى، مرفوض كله إذا كان هذا هو منطقه في العلم، فكيف يحمل الدين هذا التعارض مع العلم، وكيف يتناقض مع الأدلة العقلية، والتطور المعرفى الإنسانى، والعلوم الطبيعية؟ كيف يمكن إقناع الناس أن يعيشوا على جهالة ودون القراءة والكتابة؟ وكيف يمكن اعتبار الخط فضيلة لقراءة القرآن فقط وفضائل القراءة والكتابة تتخطى هذا إلى كافة مناحى الحياة؟ وإذا كان الرسول أميا لا يقرأ أو لا يكتب- وهو أمر يحتاج إلى مراجعة- واستعان بغيره من الصحابة لكتابة الوحى، ألم يكن هذا دافعا إلى التعلم لمن لا يقرأ ولا يكتب منهم؟وموجبا للدعوة إلى هذه المكرمة والفضيلة؟ وحافزا لهؤلاء أن يلحقوا بهم؟وحجة للرسول أن يدفعهم إلى هذا؟ وكأن القرآن دعوة إلى العلم والتفكر والتدبر، وليس التمسك بتلابيب الجهل والتخلف، ثم يكون هذا قدوتهم وإمامهم ومعلمهم؟وإذا سألت سؤالا، أجابك عن شيخ الإسلام كذا وكذا وكذا، ثم يختمون حديثهم: والله أعلم، وهم لا يعلمون..
نقلا عن المصرى اليوم