محمد حسين يونس
قد يقول البعض (عن حق).. أننا شعب عميق التدين ( بالفطرة ) ..و أنا أضيف له .. و هذا سر تخلفنا .
فالمصريين لالاف السنين لم يكن مسموح لهم بتجاوز الأحواش الخارجية للمعابد ..لا يعرفون من الدين الا أداء طقوس يومية و تقديم النزور و الأضاحي للكهنة .. و ترديد أدعية حفظوها عن الأباء و الأجداد و قصص سمعوها من الكهان علي أساس أنها حقائق و المشاركة في الموالد و الأعياد الدينية .
الكهنة يسيطرون علي تفاصيل حياتهم .. ولا يسمح لهم بالمناقشة .. و إنما الطاعة خوفا .. من كائنات ضارية مثل (أموت ) و (أنوبيس ) .. و الفشل بعد الموت في قاعة محاكمة (ماعت) وما يصاحبه من فناء و حرمان من دخول حقول( الأليسيان) حيث الخلود و الراحة .
علي العكس كان كهنة الديانتين المصريتين اللتين سيطرتا لالاف السنين علي سلوك و حياة المصريين (هليوبليس - منف ) و (طيبة ) .. كانوا بالإضافة لما يقدمونه من خدمة روحية .. علماء ( بجد ) في الفلك و التقويم الزمني والرياضيات و العلوم و الطب و التشريح والجراحة و الكيمياء والتحنيط و الجيلوجيا و التعامل مع الصخور .. و كانوا بنائين مهرة و مساحين مبهرين .. وأدباء و فنانين عظام .. و لكن كل هذا ضمن منظومة سرية داخل المعبد أشبه بالجيتو .. لا يولجها الغرباء .. و الغرباء هنا من هم ليسوا بكهنة أى باقي أفراد الشعب المصرى الذين يقتاتون علي فتات المعرفة بعد أن أبقوا عليهم قوى عاملة تعاني من الجهل و الأمية ..
لذلك عندما قضي علي الكهانة و الكهنة و دمرت مكتباتهم ودراساتهم و أبحاثهم .. دفنوا معهم أسرارهم و علومهم .. و معرفتهم .. بل و أسس فلسفتهم وقضايا منطقهم ... و تركوا للغزاة شعبا بسيطا مستسلما تعود علي الإنقياد .. و أداء الطقوس دون مناقشة .
الكهنة و العسكر ثنائية حكمت مصر لالاف السنين يدعم كل منهما الأخر .. هؤلاء يمسكون اللقحة .. و الأخرون يحلبونها .. و ينعم كلاهما بحياة رغدة.. يسخرون بسببها الشعب .. يبني المعابد .. و القبور .. و العواصم الجديدة ( منف ، طيبة ، أخيتاتون ، الأسكندرية ) و يشيدون المسلات و التماثيل العملاقة ..و يخلدون ذكراهم علي حساب من يعملون و يسلمون المحصول لغاصبيهم.. وقد تم ترويضهم و إسكاتهم بالجهل و العوز...و الإرهاب .
و هكذا نستطيع أن نقول بقدر مناسب من الثقة أن ما بين أيدينا من مخطوطات و كتابات نتحدث عنها علي أساس أنها (تاريخ) مصر .. هي في الواقع (تاريخ) الكهانة أو ما يسبغة الكهان علي الملوك و القادة من فضل .. و ما يصفون به أعمالهم أو معاركهم الحربية بتهويل .. أو إضافة أنسابهم التى تعلو حتي تصل إلي بنوة الرب لهم ..و هو أمر يبعد كثيرا عن ما كانت علية حياة الشعب من تهميش و إسترقاق و سخرة .
((كان خليقاً بمصر أن تكون أسعد بلدان الأرض قاطبة، لأن النيل يرويها ويغذّيها، ولأنها أكثر بلاد البحر الأبيض المتوسط قدرة على الإكتفاء بخيراتها فهي غنية بالحب والفاكهة، وتنتج أرضها ثلاث غلات في العام، ولم يكُن يعلو عليها بَلَد آخر في صناعاتها، وكانت تصدر الغلات والمصنوعات إلى مائة قطر وقطر، وقلما كان يزعجها ويقلق بالها حرب خارجية أو أهلية.))
ولكن يبدو أن ((المصريين برغم هذه الأسباب، أو لعلّهم لهذه الأسباب .. لم ينعموا بالحرية يوماً واحداً في تاريخهم كله على حد قول يوسفوس. ذلك أن ثروتهم كانت تغري بهم الطغاة أو الفاتحين واحداً في إثر واحد مدى خمسين قرناً من الزمان كانوا فيها يستسلمون لأولئك الطغاة والفاتحين )).
المقطع أعلاه الذى إستعرته من موسوعة وول ديورانت يعبر عن جانب من الاسباب التي كادت أن تصبح قانونا لما آلت إليه الاوضاع في مصر منذ الغزو الفارسى بقيادة قمبيز .. حتي الزمن الحديث .. طغاة ... و .. فاتحون .. و لا فرق بينهما ... ينهبون .. و يسخرون شعبا مستسلما لتراهات لوبي من الكهنة المغرضين
القانون الآخرالذى إستمر لا يختلف او يتعدل عبر العصور هو أن رجال الدين (الذين كانت لهم دائما السيطرة علي الشعب بخرافات يتداولونها كما لو كانت حقائق ) مثلوا بشكل مستمر عناصرالطابور الخامس الذى يمهد الارض للطغاه ويمكنهم من الاستيلاء علي السلطة والنفوذ والاموال.
فعل هذا كهنة هليوبليس مع قمبيز كيدا و تهميشا لكهنة أمون
(( ملك الفرس ابن الملك قورشٌ الذى غزا مصر سنة 431 ق.م وحكم لمدة 4 سنوات لقب خلالها بالألقاب المصرية القديمة مثل ملك الشمال والجنوب وابن رع واتخذ لنفسه لقب حورس موحد الأرضين ليعطى لحكمه أمام الشعب صبغة مصرية يحيطها كهنة هليوبليس و منف بكل إجلال و تقديس .. وخداع . ))
و كهنة أمون قاموا بنفس السلوك عندما واتتهم الفرصة مع الاسكندر لإستعادة مكانتهم التي سلبها كهنة هليوبليس..
(( خرج الكهنة لاستقباله عند البوابة وصاحبوه حتى معبد آمون (بسيوة ) وعلى بابه وجد الكاهن الأكبر يدعوه أن يدخل إلى الصومعة الداخلية لكى يستشير آمون بنفسه إكراما لشخصه ومكانته ولما خرج بدا عليه السعادة والرضى ولما سأله رفاقه بعد ذلك عما حدث رفض ان يبوح بشيئ من هذه الأسرار وأعلن أنه لن يبوح بها إلا لأمه))
لقد قالوا له أنه إبن آمون ليصبح لقبه المفضل لخداع المصريين ،( نفس السيناريو الذى فعله نابليون في نهاية القرن الثامن عشر بعد ذلك ).
وهكذا كعادة الحكام في مصر من إنشاء عواصم جديدة بني إبن آمون الاسكندرية علي النمط اليوناني لتصبح فيما بعد في عهد خلفاءه من البطالمة عاصمة الحكم .
((وقد نعمت مصر بالأمن والخير فى ظل حكم البطالمة الأوائل، حتى عصر "بطليموس الرابع"، كما ازدهرت الحضارة الهلينستية بها، وصارت مدينة الإسكندرية أعظم مدن العالم القديم في ذلك الزمن))...
((ثم ضعفت بعد ذلك دولة البطالمة بسبب تخاذل ملوكها وتعدد ثورات المصريين ضدهم. مما أغرى روما لفرض المزيد من التدخل فى شئون مصر الداخلية )).
و لكي نفهم حقيقة الوضع في ذلك الزمن ومدى الرفاهية .. و الثراء الذى عاش تحت مظلته الحكام . البطالسة في الفترة من (323 – 30 ق.م ) دعنا نقرأ ما حكاه ديورانت في موسوعته عن لققاء كليوباترا ألسابعة أخر ملوكهم مع قيصر روما ..
((أرسل انطونيوس الرسل الي كليوباترا يدعوها للمثول بين يديه في طرطوس لتجيب عما إتُهِمَت به من مساعدتها كاثيوس علي جمع المال و الجنود
و جاءت كليوباترا في الوقت الذى إختارته وعلي الطريقة التي إختارتها فبينما كان أنطونيوس يجلس علي عرشه في السوق العامة ينتظر منها أن تحضر وتدفع عن نفسها التهمة ..ثم يقضي لها او عليها ركبت هي نهر سندس في قارب ذى أشرعة أرجوانية وسكان مذهب ومجاديف من فضة تضرب الماء علي أنغام الناى والمزمار والقيثار وكانت وصيفاتها هن البحارة ولكن في زى حور البحر وربات الجمال ..اما هي فقد تزيت بزي زهرة فينوس ورقدت تحت سرادق من قماش موشي بالذهب .
ولما انتشر بين أهل طرطوس النبأ أقبلوا علي شاطيء النهر زرافات ووحدانا لمشاهدة هذا المنظر الفتـّان وتركوا أنطونيوس وحده جالسا علي عرشه .
كليوباترا دعته علي العشاء معها في قاربها فأقبل عليها ومعه حاشيته الرهيبة فاولمت لهم وليمة فاخرة وقدمت لهم أشهي أنواع الاطعمة والشراب وأفسدت القواد بما قدمت لهم من هدايا و إبتسامات .
لقد كانت في التاسعة والعشرين مكتملة المفاتن وهكذا أمام سحرها و ذكائها بدأ حديثه معها يلومها وإختتمه بأن أهدى لها فينقية و سوريا الوسطي وقبرص وأجزاء من قليقلة و بلاد العرب و اليهود)).. ببساطة كدة
( نكمل حديثنا باكر))