محمد حسين يونس
مع إلاحتلال الروماني عام 32 ق.م ((ظلت مصر خارج الإسكندرية محتفظة بمصريتها عابسة صامتة، وقلّما اصطبغ فيها شيء بالصبغة الرومانية بعيداً عن مَصاب النيل)).
أما عاصمة البلاد ..الإسكندرية .. فقد كانت بحق مدينه متروبولاتينة تضم أعراق متعددة و ثقافات متجاورة و لغات غير موحدة ..لقد كانت من أعظم المدن اليونانية
و إن ((أخذت في القرن الثاني بعد الميلاد تصطبغ بصبغة الحواضر الشرقية في أخلاق أهلها ولُغاتهم وفي جوّها الشرقي.))
كان يسكن عاصمة مصر 800.000 من إجمالي سكان البلاد البالغ عددهم 8.500.000 ، ولم يكن يزيد عليها في عدد السكان سوى مدينة روما نفسها. ..أما من حيث الصناعة والتجارة فقد كانت أولى المُدن في الإمبراطوريّة.
((وقد ورد في خطاب يُعزى إلى (هدريان ) أن كل شخص في الإسكندرية كان يعمل، وأن لكل إنسان فيها حرمة، وحتى العرج والعمى يجدون لهم فيها عملاً ،وكان من بين مئات الصناعات القائمة في المدينة صناعة الزجاج، والورق، ونسج الكتان. وكانت هذه المصنوعات موفورة الإنتاج، وكانت الإسكندرية مركز صناعة الكساء والأزياء العصرية المستحدثة في ذلك الوقت( عاصمة الموضة )، فكانت هي التي تصمم طراز الملابس وهي التي تصنعها. وكان لمرفئها العظيم تسعة أرصفة، يخرج منها أسطولها التجاري ليمخر عباب عدة بحار. وكانت المدينة فوق ذلك مركزاً للسياح، فيها الفنادق، والأدلاء، والمترجمون لاستقبال الزائرين القادمين إليها لمشاهدة الأهرام والهياكل الفخمة في طيبة. ))ً.
وكان سكان المدينة .. خليط من اليونان، والمصريين، واليهود، والإيطاليين، والعرب، والفينيقيين، والفرس، والأحباش، والسوريين، والليبيين، والقليقليين، والهنود، والنوبيين، ومن كل شعوب البحر الأبيض تقريباً.
((وكان يتألف منهم جميعاً مزيجا سريع الذوبان بعضه في بعض، سريع الالتهاب أيضاً، متشاحن، سيئ النظام، عظيم المهارة والذكاء، فكه غير محتشم، لا يستحي من فحش القول، متشكك، منحرف، غير مستمسك بالخلق الكريم، مرح، شديد الولع بالتمثيل، والموسيقى، والألعاب العامة)).
(( يصف (ديوكريستوم )الحياة في المدينة بأنها ((قصف دائم... للراقصات، والمصفرين، والقتلة)). وكانت القنوات غاصة على الدوام بمحبي المرح والطرب، يستقلون القوارب الصغيرة أثناء الليل، يقطعون فيها مسافة الأميال الخمسة التي توصلهم إلى (كنوبس) ضاحيتها المليئة بالملاهي وأسباب التسلية. وكانت تقام فيها مباريات موسيقية لا تقل عن سباق الخيل إثارة للمشاعر والتصفيق والضجيج.)) .
(( كان أربعون في المائة من سكان هذه العاصمة (إذا جاز لنا أن نصدق فيلو فيما يقول) من اليهود، وكانت الكثرة منهم تعمل في الصناعة والتجارة، وتعيش في فقر مدقع، ولكن علي الجانب الاخر كان هناك (أيضا ) الكثير منهم تجاراً، وعدد قليل مرابين، و لقد بلغ بعضهم من الثراء درجة استطاعوا بها أن يحصلوا على مناصب يُحسدون عليها في إدارة الحكومة))
((وبعد أن كانوا في أول الأمر لا يشغلون إلا خُمس مساحة المدينة أصبحوا في الوقت الذي نتحدّث عنه يُشغلون خمسيها. وكانوا يحاكمون بمقتضى قوانينهم الخاصة على أيدي كبرائهم، وأيدت روما الامتيازات التي منحها إياهم البطالمة والتي يحق لهم بمقتضاها أن يتجاهلوا أي قانون يتعارض مع أوامر دينهم. ))
((وكانوا يفخرون بكنيسهم المركزي الفخم وهو باسقاً ذات عُمَد، بلغ من الاتساع حداً كان لابد معه من استخدام نظام للإشارات يضمن بها استجابة المصلين الذين لا يستطيعون- لبعدهم عن المحراب- أن يسمعوا صوت الحاخام)) .
((ويُستفاد من أقوال يوسفوس أن الحياة الأخلاقية ليهود الإسكندرية كانت مضرب المثل في الاستقامة إذا قيست إلى حياة السكان (الوثنيين) الشهوانية الطليقة وكانت لهم ثقافة ذهنية نشيطة، كما كان لهم حظ كبير من الدراسات الفلسفية والتاريخية والعلمية )).
في ذلك الوقت تم ترويج كل حواديتهم (عن مصر) التي ضمنوها أسفارهم المقدسة .. دون أن يجدوا معارضة .. أو وجهة نظر مخالفة من شعب تم تغييبه و عزله عن تاريخه و لغته منذ ما يقرب من خمسة قرون..
بل الأغرب أنه عندما أراد العرب و أوروبا من قبلهم ..الحصول علي معلومات عن مصر و بلاد ما بين النهرين ..لم يكن أمام الباحثين الذين صدموا بطلاسم اللغتين المصرية و البابلية ..إلا قبول مقال اليهود عنهما.. المفهوم كلغة.. و إعتبروه تاريخا .
((إلا أن علم الآثار يظهر رواية مختلفة عن الشعب اليهودي؛ حيث أنه لم يثبت أنهم غادروا بلاد الشام. فالأدلة الأثرية بخصوص أصول بني إسرائيل تؤكد أنها كنعانية، وليست مصرية، وتغلق الباب طبقا لأقوال أتباع مدرسة كوبنهاجن أمام أي احتمال للخروج من مصر أو رحلة الأربعين عامًا التيه في صحراء سيناء))
(( ولهذا السبب، تنحى كثير من علماء الآثار ( ومنهم يهود ) عن التحقيقات الأثرية لموسى والخروج ووصفوه بأنه (جدل عقيم). فبعد أبحاث استمرت لقرن من الزمان قام بها علماء الآثار وعلماء المصريات اتضح أنه ليس ثمة دليل مباشر يؤكد رواية الخروج أو الهروب من مصر عبر البحر )).
نحن لسنا بصدد دراسة تاريخ نشأة القبائل اليهودية في المنطقة و تطورها .. أو مناقشه علاقتهم بأرض كنعان أو السبي البابلي أو عبور البحر بمعجزة ....و لكن من الهام أن نرصد صلة اليهود ( كقبائل بدوية )تعيش علي الحدود بمصر و أنها بدأت حول 900 ق.م بهجرات محدودة عند طلب مرتزقة للجيش خلال حكم الأسر من 22 حتي ال26.... و في زمن البطالسة توافدوا بالألاف علي الأسكندرية و أصبحوا مواطنين مصريين .. ثم شكلوا في زمن الإستعمار الروماني .. جزء لا يستهان به من سكان العاصمة و من موظفي الجهاز الإدارى المتعاون مع المستعمرين .. و مع ذلك .. وقد يكون لذلك
((كانت المدينة تضطرب من حين إلى حين بالعداء العنصري؛ وشاهد ذلك أننا ما جاء في النُبذة التي كتبها يوسفوس ضد أبيوق (وهو زعيم معادٍ للساميّة) و حوت جميع الأسباب، والحجج، والخرافات التي تعكّر العلاقات بين اليهود وغيرهم من أصحاب الأديان الأخرى في هذه الأيام)).
(( وقد حدث في عام 38م. أن هاجم الغوغاء من اليونان معابد اليهود وأصرّوا على أن يضعوا في كل منها تمثالاً لكلجيولا ليتخذوه إلهاً.
كذلك حرّم (أفليوس فلاكس) حاكم المدينة الروماني ..اليهود من حق المواطنية الإسكندرية وأمر من كانوا يعيشون منهم خارج القسم اليهودي الأصلي(حارة اليهود ) أن يعودوا إليه في خلال بضعة أيام من صدور الأمر.
فلما انقضى الأجل المحدد لهذه العودة أحرق الغوغاء اليونان أربعمائة من بيوت اليهود، وقتلوا من كان منهم خارج ذلك الحي؛ وقبض على ثمانية وثلاثين من أعضاء الجروزيا (مجلس الشيوخ اليهودي، وجلدوا علناً في إحدى دور التمثيل، وطُرِد آلاف من اليهود من بيوتهم أو من أعمالهم أو حُرموا ما كانوا يدخرونه من أموالهم.))
كأن التاريخ لا يتحرك فمنذ (سنة 38) كانت هناك عنصرية مضادة لليهود في الأسكندرية ..طردتهم من مساكنهم .. و هو الأمر الذى لم يتوقف بعدها بالفين سنة حيث قام السلفيون المصريون بنفس الدور مع بعض من جيرانهم المسيحيين في قرى الصعيد .. إنه ميراث الجهالة .
عَرَضَ الحاكم الذي خَلَفَ (فلاكس) أمرهم على الإمبراطور، وسافر إلى روما (عام 40م) وفدان مستقلان - أحدهما يتألّف من خمسة من اليونان والآخر من خمسة من اليهود - ليعرض كل منهما قضيته على( كلجيولا،) ولكن الإمبراطور قضى نحبه قبل أن يصدر حكمه، فلمّا جلس (كلوديوس) على العرش أعاد إلى يهود الإسكندرية ما كان لهم من حقوق، وأكّد لهم مواطنيتهم في المدينة، وأصدر أمراً مشدداً إلى الطائفتين المتنازعتين ألا تعكّرا صفو السلام.)) ....(( نكمل حديثنا باكر .. المسيحية تطرق علي أبواب مصر )).