محمد حسين يونس
في أواخر القرن الثالث، قسم الإمبراطور دقلديانوس الإمبراطورية الرومانية إلى نصفين ، الإمبراطورية الغربية ومركزها مدينة ميلان، والإمبراطورية الشرقية في بيزنطة ، التي عرفت فيما بعد باسم القسطنطينية.
سهل التقسيم حكم الإمبراطورية في المدى القصير ، ولكن مع مرور الوقت تباعد الشطران بشكل محسوس ، فلقد فشل الشرق والغرب أن يعملا معا لمكافحة التهديدات الخارجية ، واختلفا في كثير من الأحيان على الموارد والمساعدات العسكرية .
مع اتساع الهوة ، نمت ثروة الإمبراطورية الشرقية التي تتحدث اليونانية (إلى حد كبير) بينما انحدر الغرب الذي يتحدث اللاتينية متخبطا في ازمة اقتصادية طاحنة .
الأهم من ذلك، أن قوة الإمبراطورية الشرقية حولت غزوات البرابرة بعيدا عنها إلى الغرب ، فمدينة القسطنطينية مع ملك مثل قسطنطين كانت محصنة و تخضع لحراسة مشددة ، بينما كانت ايطاليا ومدينة روما (التي كان لها فقط قيمة رمزية بالنسبة للكثيرين في الشرق) تتراجع.
و هكذا فيما انهارت البنية السياسية لروما في القرن الخامس ، استمرت الإمبراطورية الشرقية لألف سنة أخرى قبل أن تتغلب عليها الإمبراطورية العثمانية عام 1400 م.
حول عام 600 م كانت الإمبراطورية الشرقية تسيطرعلي منطقة الشام ومصر تستنزف ثرواتهما ..بواسطة حامية من الجنود يرأسها (المقوقس) ..الذى كان علي خلاف مع البطاركة القبط .. مما جعلهم يبعدون عن الأسكندرية و يختفون في أديرة الصحراء ..
سبب ..هذا الخلاف دون التورط في مناقشة الأحداث التي صاحبت المجمعات المسيحية المتتالية أو في المناقشات الفكرية و الفلسفية التي دارت هناك ...( كما ورد في موسوعة صعود و سقوط الإمبراطورية الرومانية ) هو أنه تم عزل بطريرك أنطاكية ساويريوس عام 518 لكونه من أصحاب إتجاه الطبيعة (اللاهوتية ) الواحدة للسيد المسيح... ثم نزوحه للأسكندرية حيث تجمع الأنصار حوله ..مما شكل تغيرا جذريا في علاقة المسيحيين من المصريين (الاقباط ) بالسلطات المحتلة (التي تؤمن بأن المسيح له طبيعتين أحدهما لاهوتية و الاخرى ناسوتية ).
بمعني أن ما حدث في أنطاكية من صراع بين الفريقين إنتقل الي الإسكندرية ولكن بشكل أكثر تفاقما بعد أن شكّل أصحاب الطبيعة الواحدة (اللاهوتية )أو المونوفيزيون قاعدة شعبية كبيرة في مصر، عانوا بسببها من شتى أنواع الاضطهاد على يد ممثلي الإمبراطورية البيزنطية بالرغم من أنه (اى الاضطهاد ) لم يأت بالثمار المرجوة بل عمّق الشرخ الحاصل في الإمبراطورية بين الفئتين.
سنة 622 م أقر الامبراطور (هرقل) عقيدة جديدة هي المونوثيلية بمعني طبيعتين في مشيئة واحدة كحل وسط لكن أصحاب الطبيعة الواحدة رفضوا الصيغة الجديدة مما افتتح عهدًا جديدًا من الاضطهادات الشديدة، بحيث هرب عدد منهم لمناطق خارج نطاق الإمبراطورية .. و منها بلاد شبه جزيرة العرب ..حيث ((كانوا منتشرين بكثافة هناك في اواسط القرن السادس الميلادى هاربين من قياصرة القسطنطينية)).
عموما لم تطل الإضطهادات .. فقد وقعت المنطقة بكاملها بيد الجيوش البدوية القادمة من شبه الجزيرة العربية.
من هم هؤلاء البدو الذين غيروا توازنات القوى .. في المنطقة .. وتم الترحيب بهم بواسطة المونوفيزيون ..., لا أحد يعرف علي وجه اليقين .. أصولهم .. وتطور ثقافتهم ..
فالعرب ( قاطني شبه الجزيرة ) كانوا أمة خاملة من بدو رحل وأمم علي هامش التحضر.. يتصارعون لعشرات بل مئات السنين لاسباب تافهه .. يدينون بعشرات الأديان ..و يفتقدون إلي أسباب الحياة ..أو لقيادة قادرة علي حل التناقضات و الخلافات المجتمعية التي بينهم ..
بمعني أنه رغم وجود بعض التجمعات في اليمن و حضرموت و علي الحدود مع بلاد ما بين النهرين .. مدنية الطابع .. إلا أن أغلب السكان الصحراويون كانوا ينضون تحت لواء قبائل لا تتوقف عن الحرب و السطو والنزاع لاتفه الأسباب .. حتي في الأشهر الحرم .
في نفس الوقت العرب لم يكونوا مولعين بكتابة تاريخهم بقدر ما كانوا يتداولون الأحداث الهامة شفاهة .. بواسطة الشعراء و الرواة .. أو كما كتب الدكتور ( جواد علي ) في موسوعته عن ((العرب قبل الاسلام ))
((من الأمور التي تثير الأسف، تهاون المؤرخين في تدوين التأريخ الجاهلي، ولا سيما القسم القديم منه، الذي يبعد عن الإسلام قرنا ًفاكثر، فإن هذا القسم ضعيف هزيل، لا يصح أن نسميه تأريخا، بعيدا في طبعه وفي مادته عن طبع التواريخ ومادتها....
... المؤرخون العرب لم يظهروا مقدرة في تدوبن التأريخ الجاهلي، بل قصروا فيه تقصيراَ ظاهراً. فاقتصر علمهم على الأمور القريبة من زمن الإسلام، على أنهم حتى حول هذه الحقبة لم يجيدوا رصدها إجادة كافيه، ولم يظهروا فيها براعة ومهارة، ولم يطرقوا كل الأبواب أو الموضوعات التي تخص الجاهلية. فتركوا لنا فجوات و ثُغراً لم نتمكن من سدّها وردمها حتى الآن )) .
ثم يكمل متساءلا عن الأسباب التي دعت إلى حدوث ذلك وهل كان هناك تعمد ا في طمس أخبار الجاهلية مع ظهور الإسلام (( بسبب انهم لم يكن لديهم كتب مدونة في تأريخهم ولا علم بأحوال أسلافهم، وأن الاسباب كانت قد تقطعت بينهم وبين من تقدمهم فلم يكن لديهم ما يقولونه عن ماضيهم غير هذا الذي وعوه فتحدثوا به إلى المدونيين الإسلاميين، ووجد سبيله إلى الكتب؟))
لقد عزا بعض الباحثين هذا التقصير إلى أن الإسلام كمنهج تفكير و اسلوب حياة ،يجب ما قبله ((فزعم إن رغبة الإسلام كانت قد اتجهت إلى استئصال كل ما يمت إلى أيام الوثنية في الجزيرة العربية بصلة، مستدلا بحديث: (الإسلام يهدم ما قبله) ، دعا إلى تثبيط همم العلماء عن متابعة الدراسات المتصلة بالجاهلية، والى محو أثار كل شيء تفرع عن النظام القديم، لم يميزوا بين ما يتعلق منه بالوثنية والأنصاب والأصنام،وبين ما يتعلق بالحالة العامة كالثقافة والأدب والتأريخ ، فكان من نتائجه ذهاب أخبار الجاهلية، ونسيانها، وابتدأ التأريخ لدى العرب المسلمين بعام الفيل. ولهذا كان المؤرخون أو الأخباريون، الذين يحاولون تدوين أخبار الماضي وحفظ مفاخره، ينظر اليهم شزراً في المجتمع الإسلامي، وخاصة في العهد الأول والراجح أن السبب في ذلك هو الرغبة في عدم دراسة الأشياء التي قرر الإسلام طمسها، أعني بذلك الديانات والطقوس الوثنية في بلاد العرب)) .
و هكذا يصبح هناك سؤال هام يتطلب الرد .. هو لماذا إنحياز المسيحيون الشرقيون لقوات غزو شعب خامل الذكر متحفظ و مغلق مثل هذا .؟؟
((يرى عدد من الباحثين أنهم قد دعموا عملية الغزو، خصوصًا الغساسنة والمناذرة وكذلك فعل المسيحيون (السريان)، ويقال أن سكان المدن السورية على نهر الفرات فتحوا أبواب المدن مهللين للفاتحين الجدد، وكذلك فعل مقاتلو الجيش البيزنطي خلال معركة اليرموك)).
و ((هذه المقولات عن ترحيب مسيحي الشرق بالقوات الغازية ، لا يمكن قبولها الا في إطار أن السادة المهللين المرحبين كان قد تم خداعهم بتصويرأن البدو القادمين علي ظهور الخيل إنما هم من انصار احد المذاهب المسيحية (المسمي بالاسلام ) التي تتبع تعاليم (النساطرة )او( الاريوسيين)الذين يؤمنون بالطبيعة(الناسوتية ) الواحدة للمسيح ليخلصونهم من إضطهاد أصحاب الطبيعتين ))...
(( نكمل حديثنا غدا ))