بقلم- عبدالمنعم عبدالعظيم
هل تذكر "أسمهان" عندما كانت تشدو بأغنيتها الشهيرة "يامين يقولي أهوى أسقيه بإيدي قهوة، أنا أنا أهوى"، وكان المنولوجست خفيف الظل "عمر الجيزاوي" يغني: "مالك قاعد كده بتفكر، شايل هم كثير ومكشر، دنيا حلوة وزي السكر، قوم اشرب اتفضل قهوة، أنا متشكر، اتفضل قهوة"، وأغنية "صبوا القهوة صبوا الشاي مرحب مرحب بالزوار".. فاختلطت القهوة بالفلكلور الغنائي تعبيرًا عن الكرم، وهل فكرت وأنت تقدمها لضيوفك ما قصتها؟
القهوة شراب متخذ من قشر البن أو منه، مع حبة المحجم، وكان أول ظهور لها حسبما ذكر الشيخ "شهاب الدين بن عبدالغفار" بـ"اليمن"، فقال إنه شاع في بلاد "اليمن" شراب يُقال له "القهوة" تستعمله مشايخ الطرق الصوفية وغيرهم للاستعانة به على السهر في الأذكار، وكان ظهورها على يد الشيخ "جمال الدين أبي عبدالله محمد بن سعيد الذبحاني"، وقال "فخر الدين بن بكر بن أبي يزيد المكي" إن أول من أنشأها ببلاد "اليمن" الشيخ "العارف على بن عمر الشاذلي". أما أول ظهورها بـ"مصر"، فقال العلامة "بن عبدالغفار" إنها ظهرت في حارة الجامع الأزهر المعمور بذكر الله تعالى في العشر الأول من القرن العاشر، وكانت تُشرب بالجامع الأزهر برواق "اليمن" يشربها فيه اليمانيون ومن يسكن معهم في رواقهم من أهل الحرمين الشريفين، وكان المستعمل لها الفقراء المشتغلون بالرواتب من الأذكار والمديح، وكانوا يشربونها كل يوم اثنين وجمعة يضعونها في ماجور كبير من الفخار الأحمر ويغرف منه النقيب بسكرجة صغيرة أثناء الذكر لإذهاب النعاس والكسل، واشتهرت القهوة بـ"مكة"، وشُربت في المسجد الحرام، ولا يُعمل ذكر أو مولد إلا بحضورها.
وفي عام 917، أفتى آخوين أعجمين اشتهرا بالحكيمين، لهما فضيلة في المنطق وعلم الكلام والطب، بحرمة القهوة، وأعانهما الشيخ "شمس الدين محمد الحنفي الخطيب" نقيب قاضي القضاة "سري الدين بن الشحنة" وناس آخرون، وأغرى الشيخ "شمس الدين" هذا الأمير خير بيك المعمار باشا مكة ومحتسبها على إبطالها من الأسواق ومنع الناس من شربها، وعقد لذلك مجلسًا عنده، وكتبوا بذلك محضرًا كتبه "شمس الدين الخطيب" وأرسلوه إلى "مصر"، وطلبوا منشورًا سلطانيًا بمنعها بـ"مكة"، ثم أشهر الأمير "خير بك" النداء بمنع شربها أو بيعها، وشدّد في ذلك، وعزر جماعة من باعتها وكبس مواضعم وأحرق ما فيها من قشر البن، فبطلت حينئذ من السوق، وصار الناس يشربونها سرًا إتقاءًا لشره، وتناولها الشعراء في أشعارهم.. قال أحدهم:
قهوة البن حُرمت فاحتسوا قهوة الزبيب ثم طيبوا وعربدوا وانزلوا في قفا الخطيب
وقال آخر:
قهوة البن حرمت فاحتسوا قهوة العنب واشربوها وعربدوا والعنوا من هو السبب
وفي عام 918 قدَّم الأمير "قطلباي" إلى "مكة" المكرمة بصحبة الركب الشريف عوضًا عن "خير بيك" فأكثر من شربها، فانتشرت أضعاف انتشارها الأول، وفي شهر ذي القعدة سنة 932 قدم إلى مكة "العارف بالله سيدي محمد بن عراق" فبلغه أنه يُفعل في بيوت القهوة (المقاهي) المنكرات، فأشار على الحكام بإغلاق هذه البيوت مع تصريحه بحلها في ذاتها، ولما توفى الشيخ عام 933 رجع الحال إلى ما كان عليه، وقد منعها الشيخ "شهاب الدين بن عبدالحق السنباطي" وأفتى بحرمتها، وفي ذلك قال الشاعر:
إن أقومًا تعــــــدوا والبلا منهم تأتى
حرموا القهوة عمدا وقدرو إفكا وبهتا
إن سالت النص قالوا ابن عبدالحق أفتى
يا أولى الفضل اشربوها واتركو ما كان بهتا
ودعوا العزال فيها يضربون الماء حتى
وفي عام 945 بينما جماعة في بيوت القهوة (المقاهي) يستعملونها في شهر رمضان بعد العشاء، إذ وافاهم صاحب العسس (الشرطة) إما من تلقاء نفسه أو لأمر تلقاه، فباتوا في منزل السوباشاه (الضابط)، وأخرجهم منها على هيئة شنيعة، بعضهم في الحديد وبعضهم مربوط في الحبال، ثم أُطلقوا صباحًا بعد أن ضُرب كل واحد منهم سبع عشرة ضربة، وعاد الحال إلى ما هو عليه بعد يومين.
ومُنعت بـ"القاهرة" مرارًا فلم تطل المدة، وعلا منارها، ولم يزل أمرها ظاهرًا، يشربها العلماء والصلحاء وطلبة العلم وأماثل الفقهاء، يقر بحلها أهل الإفتاء ويلتمس بها إذهاب الكسل وقوة النشاط.
وفي وثائق الحملة الفرنسية، أن شجرة القهوة تنبت بـ"اليمن" وشجرها مغروس على خطوط مستقيمة، ولها شبه بشجرة الكريز، ورقها ثخين وإخضراره معتم، وتستمر آخذة في الكبر إلى ثلاثين سنة، وغاية ارتفاعها ثمانية أزرع، وزهرها أبيض، وشرابها يرخي البطن وينعش القلب ويزيل الثقل والخمول، وهو نافع لهضم الطعام والزكام وآلام الرأس.
يقول شاعر في حلها:
يا قهوة تذهب هم الفتى أنت لحاوى العلم نعم الشراب
شراب أهل الله فيها الشف لطال الحكمة بين العباد
نطبخها قشرًا فتأتي لنا في نكهة المسك ولون المداد
ما عرف الحق سوى عاقل يشرب من وسط الزبادي زباد
حرمها الله على جاهل يقول في حرمتها بالهناد
فيها لنا تبر وفي حانها صحبة أبناء الكرام الجياد
كاللبن الخالص في حله ما خرجت عنه سوى بالسواد
وهكذا دارات القهوة بين من يرى بحلها وأنها الشراب الطهور المبارك الموجب للنشاط والإعانة على ذكر الله تعالى، ومن قال بحرمتها مفرط في ذمها والتشنيع على شربها، وبالغ القائل بحرمتها فإدعى أنها من الخمر، وقاسها به، وحكم بمنع بيعها وكسر أوانيها وتعزير باعتها، وبولغ في الذم فزعموا أن شاربها يُحشر يوم القيامة ووجهه أسود من قعور أوانيها، وانتصرت القهوة وانتشرت أماكن شربها في العالم كله، واستحدثوا منها عددًا من الأشربة، كالقهوة باللبن، والنيس كافيه، وغيرها. وبعد أن كانت شربًا للصوفية والذاكرين تحولت إلى مشروب شعبي.