كمال زاخر
رجائى عطية نقيب المحامين المصريين، له مقال بعنوان "بين السيد المسيح عليه السلام والتلاميذ"، وقد يرى القارئ أنه والأمر كذلك كان يتوجب أن يكون عنوانى "المسيح بين رجائى وحقائق الإنجيل"،
لكننى آثرت ألا تكون المقاربة مع معالى النقيب
* حتى لا يتحول الأمر إلى سجال شخصى،
* وحتى لا نقحم النقابة فى حوار أريده موضوعياً،
* وحتى لا أحمل كاتب المقال فوق طاقته، فهو هنا ناقل لما انتهى إليه الأستاذ العقاد فى محاولته، عبر سلسلة عبقرياته، الإقتراب من شخصيات تاريخية دينية، برؤيته وتحليله الذى أثار فى حينها جدالات صاخبة، استنفرت قرون البحث لدى الفرقاء، وأثرت الشارع الثقافى وقتها.
وكنت أنتظر من قامة لها ثقلها فى عالم الكلمة أن يعود إلى نصوص الأناجيل بنفسه وهى متاحة بنصها على مواقع الفضاء الإلكتروني، وبقليل من البحث، كان يمكنه الوقوف على دراسات مختلفة عن مصادرها، وتوقيتات كتابتها، وملابساتها، وشخوص كاتبيها، دون أن يعيد انتاج انحيازات العقاد وما ذهب إليه من اجتزاء، يرى كليهما أنه يخدم ما وقر عندهما من مفاهيم.
وظنى أن الإشكالية الحقيقية ليست فى توجيه السطور إلى التشكيك فى الأناجيل، أو فى علاقة كاتبيها بالسيد المسيح، أو التأكيد على رواية الإنجيل (الأصلى) المفقود، فى تنويعة متكررة ومتهافتة على القول بتحريف الإنجيل، الأمر الذى استنفر المسيحيين وأثار موجات غضبهم، بل الإشكالية الحقيقية فى عدم ادراك الكاتب والناقل اختلاف مفهوم الوحى بين المسيحية والإسلام، فالكتاب المقدس كتبه "اناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس"، ولم يكن إملاء، ولم يجمع باقتراع جرى بين آباء الكنيسة، فمتاحف العالم الكبرى ومكتبات الجامعات العريقة، والكنائس التقليدية وفى مقدمتها الإسكندرية وروما تحتفظ بمخطوطات محققة للأناجيل والرسائل التى فى مجملها تكوّن كتب العهد الجديد (الإنجيل بالوصف المتداول)، وهى معاصرة لزمن المسيح وقرون ما قبل عصر المجامع، بحسب الفحوص العلمية، وقانونيتها لم تكن بقرار كنسي، بل حقيقة مدعومة بدراسات موثقة من القرن الأول الميلادى. وتشهد كتابات المفكرين المعاصرين لها لهذه الحقيقة بما احتوته من اقتباسات مطولة من الأسفار المقدسة، ولاختلاف مفهوم الوحى أمكن ترجمة الإنجيل ليس فقط إلى لغات مختلفة بل إلى لهجات مختلفة فى عمق القارة السمراء وقبائل امريكا الجنوبية، ولم يفقد تأثيره ووضوحه ورسالته.
وللكنيسة القبطية تحديداً دور تاريخى فى التأكيد على صحة الأناجيل، الموجودة بين ايدينا، عبر منظومة صلواتها الطقسية الرسمية وفى مقدمتها صلوات القداس الإلهى، والمعروف باسم "قداس القديس مرقس الرسول" صاحب الإنجيل الثانى فى ترتيب الأناجيل الأربعة، ويعرفه الأقباط باسم "القداس الكرلسى"، والذى يحسب سرداً عبر الصلوات للإنجيل، وتأصيلاً لعقائد الخلق والعصيان والتجسد والفداء والمصالحة والموت على الصليب والقيامة والمجئ الثانى، المحاور الرئيسية للمسيحية، والذى ينتهى بالمائدة، المحور الرئيسى والعهد الجديد الذى أسسه المسيح مع تلاميذه ومعنا، الآية التى تركها لهم ولأبنائهم من بعدهم بحسب ما جاء "بالقرآن الكريم".
ومازال بيت القديس مرقس الرسول قائماً حتى الآن بالقدس المحتلة وقد تحول إلى كنيسة، وهو الذى شهد تأسيس المسيح لسر المائدة، العشاء الأخير، فكيف يحتفل المسيح وحوارييه بهذا الإحتفال المؤسس فى بيت شخص لم يلتقه بحسب الكاتب والناقل، وكان القديس يوحنا وهو أخر من غادر موقع الصلب مصطحباً القديسة العذراء مريم إلى بيته بحسب وصية وتوجيه السيد المسيح له وهو على الصليب، ثم يأتى الكاتب والناقل ليقولا أنه لم يكن ضمن تلاميذه (!!)، فيما وصفه الإنجيل بالتلميذ الذى كان يسوع يحبه.
وفى ارتباك تكشفه سطور الكاتب والناقل، القول بالتناقض بين رفض المسيح أن يعلن تلاميذه هويته وبين تطويبه لبطرس لأنه أعلن هوية المسيح، ومرد الارتباك هو الخلط بين حدثين مختلفين، فالأولى جاء رفض المسيح فيها فى سياق ما هو معروف بواقعة التجلى، والتى أوردها القديس متى فى انجيله؛ "وبعد ستة ايام اخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا اخاه وصعد بهم الى جبل عال منفردين، وتغيرت هيئته قدامهم واضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور، واذا موسى وايليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه، فجعل بطرس يقول ليسوع: «يا رب جيد ان نكون ههنا! فان شئت نصنع هنا ثلاث مظال. لك واحدة ولموسى واحدة ولايليا واحدة، وفيما هو يتكلم اذا سحابة نيرة ظللتهم وصوت من السحابة قائلا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا"، ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدا، فجاء يسوع ولمسهم وقال: «قوموا ولا تخافوا"، فرفعوا اعينهم ولم يروا احدا الا يسوع وحده، وفيما هم نازلون من الجبل اوصاهم يسوع قائلا: "لا تعلموا احداً بما رايتم حتى يقوم ابن الانسان من الاموات".
أما الثانية فجاء تطويب المسيح لبطرس فى سياق واقعة مختلفة أوردها ايضاً القديس متى فى انجيله؛ "ولما جاء يسوع الى نواحي قيصرية فيلبس سال تلاميذه: «من يقول الناس اني انا ابن الانسان؟ فقالوا: قوم يوحنا المعمدان واخرون ايليا واخرون ارميا او واحد من الانبيا، قال لهم: وانتم من تقولون اني انا؟ فاجاب سمعان بطرس: انت هو المسيح ابن الله الحي، فقال له يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا ان لحما ودما لم يعلن لك لكن ابي الذي في السماوات، وانا اقول لك ايضا: انت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي".
ويقول الكاتب والناقل "أن السيد المسيح مضى فى دعوته زمنا ولم يذكر لتلاميذه أنه هو المسيح الموعود"، وقد غاب عنه أن المسيح جاء فى زمن ومجتمع يهودى، لا يُقبل فيهما أن يبدأ أحد دعوته كمرسل من الله قبل سن الثلاثين، وكانت مدة دعوته ثلاث سنوات وبضعة أشهر، ومنذ اللحظة الأولى لبداية إعلانه كانت رسالته واضحة بدءً من اللقاء مع يوحنا المعمدان "يحي بن زكريا"، بحسب القديس متى فى انجيله "حينئذ جاء يسوع من الجليل الى الاردن الى يوحنا ليعتمد منه، ولكن يوحنا منعه قائلا: انا محتاج ان اعتمد منك وانت تاتي الي، فقال يسوع له: اسمح الان لانه هكذا يليق بنا ان نكمل كل بر. حينئذ سمح له، فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء واذا السماوات قد انفتحت له فراى روح الله نازلا مثل حمامة واتيا عليه، وصوت من السماوات قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت".
وبسبب هذا الإعلان ترصده قادة اليهود، وكانت اتهاماتهم تدور حول إعلانه لهويته، وهو ما سجله القديس مرقس فى انجيله وهو يرصد محاكمة المسيح التى تمت بليل نقرأ فيها " فقام رئيس الكهنة في الوسط وسال يسوع: اما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هؤلاء عليك؟، اما هو فكان ساكتا ولم يجب بشيء. فساله رئيس الكهنة ايضا: اانت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: انا هو. وسوف تبصرون ابن الانسان جالسا عن يمين القوة واتيا في سحاب السماء، فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال: ما حاجتنا بعد الى شهود؟، قد سمعتم التجاديف! ما رايكم؟ فالجميع حكموا عليه انه مستوجب الموت.
هكذا تتبدى لنا صورة المسيح وتلاميذه كما جاءت بالأناجيل وكما نؤمن بها.
نقلا عن الشروق