بقلم: يوسف سيدهم
منذ أسابيع ثلاثة -في 23 أغسطس الماضي- كتبت في هذا المكان مستعرضا الحالة اللبنانية منذ الفورة الشعبية التي بدأت في أكتوبر 2019 واستمرت بعد كارثة انفجار الميناء ودمار بيروت… وأفرزت استنجاد اللبنانيين بفرنسا لإنقاذهم من واقعهم المتردي اقتصاديا وسياسيا وهو ما تفاعلت معه فرنسا بالتبشير بقبولها رعاية عملية إعادة تشكيل المستقبل السياسي للبنان وتحقيق أماني الشعب اللبناني في صياغة معالم دولة وطنية غير طائفية… واجتهدت أنا في قراءتي لذلك المشهد بأن قلت: أتصور أننا نقف أمام حاجة أصبحت ملحة وحتمية لأن يجلس اللبنانيون ليكتبوا دستورا جديدا للوطن اللبناني عماده المواطنة عوضا عن المحاصصة.. دستور يتساوي أمامه جميع اللبنانيين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن القبلية والعائلية والطائفية والمذهبية.. دستور لدولة مركزية واحدة لها علم واحد وجيش واحد وانتماء واحد وولاء واحد.. دستور تنسحب أمامه جميع أشكال التبعيات والتقسيمات من أجل أن يولد لبنان جديد عفي… هذا ما قلته وكتبته.. فماذا حدث؟
وقتها كان لبنان علي شفا فراغ سياسي بعد استقالة الحكومة وتفكك البرلمان علي أثر خروج أكثر من كتلة سياسية منه, وكان التساؤل الذي يبحث عن إجابة مصيرية: كيف سيتم تحقيق التوازن بين أماني الشعب اللبناني في صياغة دستور دولة المواطنة وبين الانصياع لمعايير دولة المحاصصة؟.. وكان الاختبار الأول هو اختيار شخص رئيس الحكومة الجديدة التي تتولي إدارة شئون البلاد, لكن ما حملته الأنباء لم يأت بجديد بل دل علي أن لبنان مايزال يسير علي قديمه.. فقد تم اختيار السفير مصطفي أديب لقيادة الحكومة الجديدة وبغض النظر عن استحقاقه وصلاحيته للمنصب وللمسئولية الجسيمة الموكلة إليه, نجد أنه جاء نتيجة استيفائه لمعايير التأهل السائدة في نظام المحاصصة وأولها أنه مسلم سني ومن بعدها توافق الكتل السياسية ورؤساء الحكومات السابقين علي ترشيحه, وذلك شمل مباركة التيار الوطني الحر وهو أكبر كتلة مسيحية بالبلاد, وكذلك الطائفة السنية, علاوة علي كل من كتلة حزب الله وحركة أمل اللتين تمثلان التيار الشيعي.
إذا مايزال المتحكمون في اللعبة السياسية هم جميع رموز نظام المحاصصة والقابضون علي قطع الكعكة اللبنانية التي جري الصراع عليها ودارت الحروب الأهلية لإعادة تقطيعها وتغيير أنصبتها بينهم أكثر من مرة خلال نصف القرن الماضي… أما أماني الشعب اللبناني الذي سئم كل ذلك وثار عليه ونادي بدولة المواطنة فتبقي مؤجلة لا أحد يعرف كيف ومتي يمكن إدراكها.
صحيح أن الرئيس اللبناني ميشيل عون صرح عشية الاتفاق علي تولي مصطفي أديب رئاسة الحكومة الجديدة بأن وقت التغيير حان وتعهد بالدعوة إلي حوار يضم السلطات الروحية والقيادات السياسية بغية التوصل إلي صيغة مقبولة من الجميع تترجم بالتعديلات الدستورية المناسبة لإعلان لبنان دولة مدنية… لكن المدقق بين ثنايا ذلك التصريح لن يفوته أنه لم يتحدث عن الشعب اللبناني ولم يشر إلي رؤية لخلع رداء المحاصصة أو تجنيب الفرقاء القابضين علي أنصبة الكعكة, إنما حرص علي دعوة السلطات الروحية والقيادات السياسية أي أن أقطاب اللعبة السياسية المطلوب التخلص منهم واستبدالهم بإرادة جموع اللبنانيين مايزالون هم المدعوون لصياغة شكل التغيير المأمول!!!
فإذا عرفنا أن لبنان في ظل هذه السلطات الروحية والقيادات السياسية- ذلك التعبير الفضفاض الذي أراد به الرئيس عون ذر الرماد في العيون عن التقسيم الطائفي وكتل العائلات -يبقي مأسورا في إرث بغيض يستحيل الفكاك منه, فكيف يكون الخلاص وكيف يتأتي التجديد؟… إن نظرة فاحصة علي التقسيم الصارم الدقيق الجاثم علي صدر لبنان واللبنانيين تلقي الضوء علي المسافة السحيقة التي تفصل بين المحاصصة والمواطنة وأنا أستشهد في ذلك بما كتبه الأستاذ الدكتور علي الدين هلال في مقاله بجريدة الأهرام بتاريخ 16 أغسطس الماضي حيث جاء فيه:
قيام نظام الحكم في لبنان علي أساس المحاصصة الطائفية وبالطريقة التي تم تطبيقها هو أس البلاء, فهذا النظام يقوم علي توزيع مناصب مؤسسات الدولة علي أساس طائفي, فرئيس الجمهورية مسيحي ماروني, ورئيس الحكومة مسلم سني, ورئيس البرلمان مسلم شيعي, ويتم تطبيق هذا التوزيع الطائفي في مناصب الوزراء.. وبالنسبة للجيش يكون قائده من الموارنة ويتكون المجلس العسكري وهو أعلي هيئة بالجيش من ضباط ممثلين للطوائف الخمس: السنة والشيعة والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والدروز, كما يراعي التمثيل الطائفي في اختيار الطلاب المتقدمين للالتحاق بالكليات العسكرية.. وهو نفس الوضع المعمول به في عضوية مجلس النواب الذي يتم توزيع مقاعده علي أساس طائفي ولا يحق للمواطن اللبناني ترشيح نفسه إلا في الدوائر المخصصة للطائفة التي ينتمي إليها.. وتمتد المحاصصة الطائفية لتشمل القضاة ومديري الدوائر الحكومية وسفراء لبنان في الخارج والأساتذة والعاملين في الجامعة اللبنانية حتي أنها تمتد أيضا إلي صغار الموظفين في الجهاز الإداري للدولة.
إلي هذا الحد المخيف يستشري السرطان الطائفي في جسد الدولة اللبنانية, ويظل التساؤل معلقا: أين الخلاص إذا كان يعهد به إلي القابضين علي ثمار الطائفية والمحاصصة؟… ولأن شر البلية ما يضحك سرح بي الخيال وتصورت أنه في معرض اختيار رئيس الحكومة اللبنانية الجديد برز اسم شخصية لبنانية علي قدر ملحوظ من الاستحقاق لكنها ليست لمسلم سني… وسرعان ما صفعني الواقع بأن ذلك مستحيل.. مستحيل.. ألم أقل لكم إن لبنان مايزال علي قديمه!!