بقلم:المهندس نبيل المقدس
فوجئت بمكالمة من حفيدي الذي يبلغ من العمر 19 عاما تقريبا .. يحدثني بأنه مبسوط جدا أنه ذهب إلي مقر الإنتخاب لكي يدلي بصوته ... وسألته ببساطة .. " ياتري إنتخبت مين ؟؟ " : رد عليّ بسرعة ( حمدين صباحي ) ... ويستمر في حديثه .." اتفقت انا واصدقائي بالمدرسة ان ننتخبه لأنه الأنسب الينا من ناحية الحريات . قلت له : هو انتم اخترتموه عشان الحريات فقط ؟؟ قال لي نعم .. نحن الشباب لا يهمنا إلا ان نعيش في حريات شخصية بدون تصنيف ديني أو فصل للجنسين , حتي ولو كان مستوي المعيشة علي قدنا نحن نريد أن نسترجع الزمن الجميل إللي انت وجيلك بتتغنوا بيه وفلقتونا بيه ," كفي اننا نشاهد السيد حمدين صباحي يقدم إبنته المحترمة للغناء في لقاء تلفزيوني في منزله المتواضع ولم يخجل بل شاركها الغناء .. نحن نريد مثل هذا الرئيس " .
هذا هو تفكير شابات وشباب اليوم .. فقد قاسوا الذل المعنوي الناتج عن التفرقة الدينية والقيود الدينية ,هم وآبائهم وبعض من أجدادهم ( أصحاب الزمن الجميل ) الذين أمد الله في أعمارهم حتي الآن .. والدليل علي ذلك أن هذا الجيل يعشق مشاهدة الأفلام القديمة .. وما زال يستمع إلي الأغاني التي كانت مشهورة ايام الستينات بالذات , وكذلك أدمن الكثير من مشاهدة المسرحيات التي كانت سائده في هذا الزمن الجميل ... فربط روح عصر عبد الناصر بروح عصر صباحي راجيا أن يصبح زمنه الحالي يشابه زمن ستينات القرن الماضي الجميل , ووضع فيه آماله وأنجذب إليه كشابات وشباب ليس فقط بسبب أنهم يمثلون ثورة 25 يناير .. بل لأنهم أرادوا أن يحيوا حياة بلا قيود دينية .. فهم اصلا شباب مصري متدين .. ولا يحتاج إلي مَنْ يعلمه عقيدته ..... !
شعرت بالفخر لأن حفيدي واصدقائه يفكرون بهذه الطريقة .. كما أنني أحسست أن رسالتي أنا وجيلي حول "زمن الستينات الجميل" وصلت إلي أحفادي أخيرا في يوم 25 يناير 2011 , مجتازة جيل أبنائي الذين هم آباء هذه البراعم , وعلي ما أظن أن هذه الرسالة وصلت إليهم عن طريق إستردادنا لذكريات هذا الزمن الجميل أمامهم بإستمرار أو كتابة مقالات في الصحف تشهد بجمال هذه الفترة أو الحديث عن بعض الكتاب والفنانين ولاعبي كرة القدم العظماء بالرغم أن هذا الزمن الجميل قد عاني الكثير من المحن والحروب والفقر أكثر بكثير مما تذوقوه.
أغلب مواليد منتصف التسعينات من القرن الماضي لا تعرف التفرقة بين العقائد .. فنجد اصدقاء معا مختلفين في العقيدة .. نجد حالات حب بين طرفي اثنين مختلفين في العقيدة .. بدأنا نجد بعض الفنانين من المسيحيين يحتلون النجومية بين قطاع كبير من بين الشباب الذي لا يفرق بين مَنْ هو المسلم ومَنْ هوالمسيحي .. تجد شابات في عمر الزهور متحجبات وغير متحجبات في مجموعات واحدة .. وربما تجد منهن مسلمات غير متحجبات .. لكن سمة مبدأ وعقيدة الإختلاط موجودة ايضا بينهن .. تجد الكثير من التعارف بين هؤلاء البراعم , والتعليقات , والشاتات في مواقع التواصل الإجتماعي "الفيس بوك والتويتر" تدور بين الأصدقاء مع بعضهم وربما تجد الكثير منهم لا يعرفون بعضهم البعض ولم يتقابلوا في الحياة العامة , لكن تجدهم في نفس الوقت مختلفين في العقائد والجنس .. هذا الشباب هو الذي اشعل الشرارة الأولي لثورتهم الـ 25 يناير 2011 واستطاعوا أن يقيلوا وينزعوا نظام حكم جشم علي صدور اجدادهم وآبائهم اربعة عقود تقريبا .. وعندما نبحث عن سر نجاحهم في خلع هذا النظام نجدها وكما ذكرت هو سمة عدم وجود التعصب بينهم وأنهم لم يتشبهوا بسمات عصر آبائهم حيث كان عدم تقبل الآخر هي السمة الغالبة وبدأت تزداد حدتها في التسعينات واوائل القرن الواحد والعشرون. هم رفضوا أن يتشبهوا بسلوك آبائهم ابناء عصر التعصب , وتشبهوا بعصر أجدادهم الذي يمثل الزمن الجميل , حتي أنني أعتبر أن هذه البراعم هم أول مَنْ علمونا المعني الجقيقي لكلمة الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الدينية .
إنتهت ايام الإنتخابات الرئاسية .. وبعد ما تم إعلان نتائجها .. إنفتحت البلاعات إياها .. وإنفجرت مواسير المجاري إياها .. وفاحت روائح أكياس الزبالة الملقاة في الشوارع وعلي الأرصفة أياها.. وكأنها كان أمر فتحها تحت رهن تفريغ صناديق الإنتخابات .. وإندفع مرشحي الرئاسة الذين لم يكن لهم نصيب النجاح إلي نشر إشاعات بعدم نزاهة هذه الإنتخابات .. بعد أنهم كانوا يعلنون بنزاهتها وشفافيتها .. حتي انهم اتهموا اقباط مصر في عدم وطنيتهم وإشاعة أن الأقباط أخذوا اوامر إلهية من كنائسهم بترشيح شخص معين ..
جاءني حفيدي إلي محل عملي هو وزميل له لا أعرفه إنتخبا حمدين صباحي .. وكانا شديدي الضيق .. وصارحني حفيدي بأنه شعر بصدمة هو وزملائه وبخيبة أمل عند أول تجربة في حياته التي تصورها أنها تجربة ديموقراطية حقيقية .. فقد فوجيء بالشخصية التي انتخبها كرئيس لمصر الذي لم ينجح يقوم بتصرفات صبيانية بحتة , لم يراها حتي في مدرسته الأجنبية التي علمته المعني الحقيقي للحريات والديموقراطية , ولم يكن يتوقع من أن تصدر هذه التصريحات والتصرفات الصبيانية من الشخص الذي وضع فيه كل ثقته في تحقيق وإعادة الزمن الجميل " زمن شباب الستينات " . تحسر وتاسف لأنه أعطي صوته الإنتخابي الأول في حياته إلي شخصية تبحث عن امتلاك العرش فقط . ظن أن هذا الذي يبدو أمامهم بأنه شخصية ثورية ويسعي للديموقراطية ما إلا شخص يضع علي وجهه ماسك الحرية وقناع التغيير إلي الأفضل,و أنه يرتدي ملابس بلياتشو تحت بدلته التي كانت تعطي له مظهر الإحترام والرجولة , والمصيبة الأكبر عندما علم من خلال النت أنه هرول إلي الجماعة لكي يتعلم تقبيل الأيادي من الذي يرشده ..
كان حفيدي يتكلم هو وزميله في منتهي العصبية ... وبعد فترة من الصمت الرهيب .. أتفاجيء أن حفيدي يقول لي : ما رايك انت ياجدو ..؟. ضحكت وتكلمت من منطلق الفكاهة وقلت له : " انا عن نفسي تمتعت كثيرا بالزمن الجميل والباقي والهم عليكم انتم يا صبيان هذا الجيل الذي لم يتذوق الطعم الحقيقي لهذا الزمن الجميل ... كما لدي بعض من مخزون هذا الزمن الجميل أعيش عليه وفيه حتي الآن " .. ثم ضحكت وانتظرت رد فعلهما .... !! لكن لم اري منهما اي رد فعل ... ولكي أكسر هذا السكون .. قلت لهما : ليس هناك إلا حل واحد امامنا كأقباط .. هذا الحل هو أن نبتعد عن مَنْ يريد تحويل مصر دولة دينية , حتي ولو علي حساب حريتنا والتي ربما تكون نتاج مرشح محسوب في نظر "الآخرين" من النظام القديم . ولأول مرة يتكلم صديق حفيدي ويقول : اكيد انا وحفيدك سوف نختار احسن الوحشين " شفيق ".. قت له برافو فهو الملاذ الوحيد للمسيحيين .
فجأة وإذ اسمع صديق حفيدي يقول لي : الموضوع ليس له صلة بالمسيحي أو بالمسلم ... واضح يا أنكل أن مخزونك من الزمن الجميل قد أصابه السوس .. بدليل أن لسانك قد زلف وذكر كلمة " الآخرين " .. وفجأة يهم حفيدي بالوقوف قائلا لصديقه .. هيا بنا يا عمرو قبل زحمة المواصلات ... أصبت بالخجل امام صديق حفيدي , ولم استطع ان ابرر خطأي .. فقد إتضح لي أنه من الآخرين . كل ما فعلته أنني خرجت ورائهما وهما يبتعدان عن المحل حتي إختفيا عن أنظاري .. وعند هذه اللحظة ايقنت فعلا أن هناك مسافة طويلة بين جيلي وجيل حفيدي ... ليس في البعد فقط لكن أيضا في الفكر ..! فقد تيقنت أن مخزوني من الزمن الجميل قد لوثه الزمن الحاضر ....!!!!
حفظ الله مصر وشباب مصر ...!