عاطف بشاي
يحتفى مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته (42) بمئوية المخرج السينمائى الإيطالى العبقرى «فيللينى» (20 يناير 1920 – 31 أكتوبر 1993) وهو واحد من أعظم المخرجين فى تاريخ السينما العالمية.. ويعرض له المهرجان أربعة من أجمل أفلامه وهى: «ليالى كابيريا 1957 – الحياة حلوة 1966 – 8.5 عام 1993 – أرواح جولييت 1965».. وتتجلى عبقرية هذا المخرج الفذ فى قدرته الفائقة على خلق عالم بأسره يمكن تسميته بـ«عالم فيللينى» السحرى الخاص والمتفرد الذى يتجاوز فيه التعبير عن إلحاحات وثقل الواقع المعاش.. وقصص وحكايات البشر فى حياتهم الاجتماعية الآنية.. وصراعاتهم اليومية المختلفة إلى آفاق أرحب.. ورؤى أعمق تشمل الوجود البشرى نفسه.. مأزق الكينونة والعدم.. الحياة والموت.. البقاء والفناء.. الحقيقة والخرافة.. الإنسان والحضارة.. تهويمات الأحلام وعبث الزمان.. التاريخ والأسطورة.. المطلق والنسبى.. السطح والجوهر.. الاحتياج والتسامى.. الرغبة المتوحشة وجموح الروح الصافية.. فأنت تشعر فى فيلمه الرائع «روما فيللينى» الذى يستعرض فيه الأبنية الكلاسيكية.. المنازل والطرقات.. المقاهى والكنائس.. إنه لا يحدثك عن روما التى تسير فى شوارعها وميادينها العريقة.. وتصلى فى كنائسها العتيقة.. وتتأمل تماثيلها الباهرة وحاناتها المعربدة.. إنه يتحدث عن فرح التلاقى وكآبة الفراق.. أسرار النفس الإنسانية الملغزة.. حزن الوداع ودفء التواصل.. لغز الحياة جمال الفنون وصيرورة الوجود..
وفى فيلمه «ساتيركون فيللينى» ينعى انهيار الحضارة الرومانية القديمة فيمزح بين الواقع والأسطورة.. ويصور بشراً ليسوا ببشر.. ملوك وأباطرة عيونهم زجاجية ووجوههم ملطخة بأصباغ منفرة.. وقلوبهم حجرية.. شرهون للولائم والدم فى سرد كابوسى حيث يقطنون كهوفاً غريبة.. فى جو أسطورى غريب يمارسون فيه غرائزهم كالحيوانات..
وفى كتابه البديع «سينما الحب» يشير الناقد الكبير «رؤوف توفيق» إلى براعة «فيللينى» فى جذبه لمشاهدى أفلامه.. بمجموعة الألعاب الفنية والفكرية التى يقدمها له.. إنه كالحاوى يبهر المتلقى بحيله الجذابة والمثيرة والمدهشة.. وفى ذلك يؤكد «فيللينى» نفسه أن المخرج ينبغى أن يكون خليطاً من الساحر والحاوى والنبى وبائع رابطة العنق والمهرج والقس الذى يلقى موعظة..
وفى فيلمه «إنى أتذكر» يقدم عالماً من ذكريات بهيجة وطريفة وساخرة لأيام البراءة فى ملاهى الصبا.. فليست أفلامه كلها كابوسية مثل «ساتيركون» بل الكثير من المرح الخلاب يزين أعماله التى تتصل بمشاغبات الطفولة والتى نلمح كثيراً من تأثر المخرج المصرى الكبير يوسف شاهين بها فى أفلامه المرتبطة بالسيرة الذاتية فى طريقة السرد والتتابع والمحتوى الجذاب الذى ينتقل بنا من حدوتة إلى أخرى برشاقة واقتدار.. وحبه العميق للإسكندرية الذى يشبه حب «فيللينى» لقريته التى نشأ فيها «بروما».. بل عشقه الأكبر لإيطاليا كلها..
يتوقف الناقد بالسرد والتحليل عند ذكريات «فيللينى» صبياً وما فعلته النازية فى إيطاليا.. فجنودهم يدقون شوارع القرية فى استعراض للقوة.. وفجأة يتردد فى ميدان القرية نشيد المقاومة الذى يزعج الجنود الذين يتصورون أنها تشرع فى الهجوم عليهم.. فيأمر القائد جنوده للترهيب بإطلاق الرصاص فى الهواء.. لكن النشيد يستمر.. فيأمرهم القائد بتفتيش المنازل والمحلات التجارية حتى يكتشف أحدهم أن النشيد الذى أفزعهم مجرد أسطوانة ثبتها أحد الأهالى فى برج الكنيسة وأوصلها بميكروفون.. وفى غيظ وحنق بالغبن يأمر القائد بإطلاق الرصاص على الأسطوانة والميكروفون فيضج الأهالى بالضحك لغباء النازى واستعراضه للقوة الغاشمة..
يقول «رؤوف توفيق» فى تحليله لسينما «فيللينى» إن السحر الفنى الذى يحققه فيلماه الأخيران «روما فيللينى» و«ساتيركون» إنى أتذكر أنه يعيدنا بحنكة وسلاسة آسرة إلى أيامنا القديمة لنستخلص منها أجمل الذكريات وأغلى الدروس..
والمثير أن «فيللينى» لا يحب أن يشاهد أفلامه.. ويفسر ذلك بأنها موجودة بداخله.. بل إنها هو شخصياً.. إنها قطعة منه عاشت وتعيش معه.. فلماذا يتحتم عليه أن يشاهدها؟.
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم