عادل نعمان
وكما قامت الدولة الأموية على منهج الخلافة، فقد ثار عليها أحفاد العباس «العباسيون» على منهج الخلافة أيضا، وقتل منهم أبو مسلم الخرسانى ستمائة ألف قتيل، بدأ بالصبى الذى يبلغ طوله خمسة أشبار إلى الكهل العجوز والمسنة منهم ومن أنصارهم، وبقتل آخر خلفاء الأمويين «مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار» لما فر إلى مصر ولجأ إلى كنيسة فى أبو صير حتى لقيه أحدهم وذبحه، وأرسل رأسه إلى الخليفة العباسى، انتقلت الخلافة العباسية'> الخلافة العباسية حينئذ إلى بغداد والكوفة على يد أول خلفائها «عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس» عم النبى «الملقب بالسفاح»، وهذا مختصر ما تناوله على المنبر فى خطبة الولاية، وقال فيها: «الحمد لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه وكرمه وشرفه، واختياره لنا وتأييده بنا، وجعلنا أهله وحصنه، وأعلمهم جل ثناؤه فضلنا وأوجب حقنا ومودتنا وأجزل من الفىء والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا وفضلا علينا، وزعمت الشامية (بنو أمية) الضلال، فشاهت وجوههم، وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وأظهر بنا الحق ودحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا ورفع بنا الخسيسة، وتمم بنا النقيصة، وانتقم منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا. إنا والله ما خرجنا فى طلب هذا إلا لسوء سيرة بنى أمية فيكم، واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم، تبا لبنى أمية بن حرب، ركبوا الآثام وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم وفشوا الجريمة، وجاروا فى سيرتهم فى العباد وسنتهم فى البلاد، وخرجوا فى أعنة المعاصى، وركضوا فى ميدان الغى، فآتاهم الله بأسه بيانا وهم نيام». وبهذا قد لخص السفاح مقومات بناء الدولة الدينية، وفى حفل العشاء أمر السفاح بقتل ما تبقى فى السجون من أسرى بنى أمية، وفرشوا المفارش والبسط «جمع بساط» ومدوا موائد الطعام عليها، وتناولوا العشاء الأخير على أوجاع وأنين أجساد من هم فى النزع الأخير وقال: «ما أكلت فى عمرى أهنأ من هذه الأكلة» ثم جروهم إلى الشوارع لتلتهمهم الكلاب الضالة، وأمر بنبش قبور بنو أمية، وصلب من كان جسده مازال قائما سليما، فلم يجدوا سليما سوى جثة «هشام بن عبد الملك بن مروان» فصلبوه ثم أحرقوه، وكانت جثث خلفاء بنى أمية من معاوية ويزيد ومروان بن الحكم حتى الثالث عشر منهم إبراهيم بن الوليد قد تحللت وفنيت، فنجت من الصلب والحرق، واستثنى السفاح نبش قبر عمر بن عبد العزيز.
وارتكب العباسيون الفظائع مع المعارضين وتفوقوا على بنى أمية فى غيهم وظلمهم، وزادوا عليهم فى فنون التعذيب ما يعجز عنه شياطين الإنس والجن، بدفن المعارضين أحياء من الرأس حتى تخرج روحه من دبره، وسلخ الجلد للأحياء فى عهد الخليفة المعتضد بالله، وهو نفسه الذى كان يشوى خصومه أحياء على نار هادئة، ويقيد الضحية «محمد بن الحسن» من قدميه ورجليه، وتربط وتشد على «الركية» كما تشوى وتسوى الشاة على النار الهادئة، وكذلك النفخ بالنمل، والتعطيش، وقلع الأظافر والأسنان، أما عن مقتل «بن المقفع» فلابد أن نعيد ونزيد ونلطم الخدود، وابن المقفع هو محمد بن عبد الله بن المقفع، ومن أشهر كتاب وفلاسفة العصر العباسى، وقد اتهموه بالزندقة، ووشوا به، وطعنوا فيه عند «الخليفة أبو جعفر المنصور» وكان أهم ما كتب كتاب «كليلة ودمنة» ترجمها عن الأدب الفارسى، وهى مجموعة من القصص والأساطير على ألسنة الحيوانات والطيور، وهذا هو الظاهر المسلى فى الموضوع، إلا أن الجانب الخفى هو صور النصائح والمواعظ للحكام والولاة، وقد كانوا يستكبرون ويتطاولون على هذا، ويقتلون من يتقدم بها عليهم، فكان الكتاب والمعارضون يلجأون إلى هذا النوع من الكتابة، كما جاءت النصيحة والفضيلة على لسان الفيلسوف «بيدبا (للملك) دبشليم» وكأن مقتل بن المقفع صورة قريبة الشبه من حكاياته وأساطيره، فلو عرضت على الحيوانات لانزعجت وتوارت خوفا وخجلا، فقد أمر «الخليفة المنصور» بالتنور، والتنور حفرة فى الأرض مستديرة، يوقد فيها النيران للطبخ والخبز، وجهز التنور بالنيران، وبدأ السياف بقطع أوصال بن المقفع قطعة وراء الأخرى، كما يصنع الجزار فى ذبيحته، إلا أن ذبيحتنا هنا حية وتشعر وتتنفس، ثم يلقى أوصاله فى التنور، ورائحة شواء أطرافه تدور حول الحضور المهللين، حتى مات.
وللمنصور الخليفة حكاية، وهى حكاية كل الأمراء والملوك والرؤساء، نراها فى أوانها، وهو يطوف بالبيت فى حجته الأخيرة يسمع فى الصفوف من يقول «اللهم إنى أشكو إليك ظهور البغى والفساد، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع»، فطلبه المنصور وأمنه على نفسه وماله حتى يفصح عن شكواه، فقال له: «إن الذى أدخل الطمع حتى حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين، جعلت بينك وبين العباد حجابا وأبوابا من حديد، وأمرت حراسك المدججين بالسلاح ألا يدخل عليك المظلوم أو الملهوف، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك، تجبى الأموال ظلما، فأنفقوا على ألا يصل إليك من أخبار الناس إلا مَا أرادوا، ولا يخرج لك مخالف إلا أقصوه ونفوه، فهابهم الناس وخافوهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وفسادا، وصار هؤلاء شركاء فى سلطانك، وأنت غافل عنهم، فإذا جاءك مظلوم حيل بينه وبينك، ولا يزال المظلوم يدفعه خوفه من بطانتك...... وكذلك يفعلون. نلتقى الأسبوع المقبل
نقلا عن المصرى اليوم