محمد حسين يونس
إعتاد المصرى – لآلاف السنين – أن يزاول حياته فى ظل جنود الاحتلال ، وجور حكامه الأجانب وتسلط رجال الأمن وجواسيسهم ، وتجبر رجال الجباية ، كما لو كان قد جبل علي أن يكرة الحرية و الديموقراطية و حقوق الإنسان .

لقد كون لنفسه أساليب تمكنه من التواؤم مع الاستعمار العسكرى والنهب الاقتصادى و إنحراف الحكام وجنونهم ..محتميا بلغته ودينه وتقاليد توارثها عن  أجداده ..

 المصرى كان قادراعلى استيعاب الآخر ودمجه وتطويعه لآليات الحياة المصرية ، إلا فى حالات ثلاث ،فقد خصوصيته  خلالها  تدريجيا .
 الأولى مع الاستعمار الاستيطانى اليونانى ( البطلمي )  ثم الروماني لالف سنة ..، فى ذلك الزمن ، توارى آمون ورع وأوزوريس ، لصالح سيرابيس وزيوس ، وبنيت الاسكندرية لتزدهر ، ساحبة الضوء عن هليوبوليس وطيبة ،

وفقد المصرى حروف لغته المكتوبة ، ليستخدم الحروف اليونانية ، وبمرور الوقت ، نسى الهيروغليفية والديموطيقية ، وأصبحت كتابات المعابد وورق البردى ، طلسمات غير مفهومة ،

وأصبح العالم يستمد معرفته عن مصر ، من خلال تراهات هيرودوت وديدور الصقلى واسترابيون ، لتتوارى الحضارة المصرية وينعزل المصرى صانعها فى غياهب النسيان .

الحالة الثانية مع غزو عمرو بن العاص لمصر باثنى عشر ألف مقاتل مكنوا قبائل العرب المهاجرة ، أن تحيط بالتجمعات السكانية والمزارع فى استعمار استيطانى ، تال ليونانية البطالسة .

ولاة العرب الاثنان وسبعون أميرا ، الذين حكموا مصر ، لم يجمعهم الا حب المال ونزحه بأساليب مشروعة ، او غير مشروعة ، سواء للمدينة او دمشق او بغداد ، وفقدت مصر للمرة الثانية لغتها وانظمة حكمها ..و غيرت دينها تدريجيا من المسيحية للإسلام
الحالة الثالثة التى أثرت فيها القوى الخارجية على المصرى وحولته عن مساره ، كانت فى الزمن الحديث،

عندما سلمت مصر طوعا (  حول سبعينيات القرن الماضى )أمرها الى قوى استعمارية ثلاث إحتلوها جميعا فى آن واحد فى سابقة لم تحدث من قبل
 لقد أصبحت مصر مستعمرة وهابية  علي مستوى العقيدة ، إستولى على عقل وأسلوب حياة وتوجهات شعبها ، مشايخ البترودولار ، وأعادوا صياغته فى أطر متشددة أقرب للارهاب الدينى .

وقامت المخابرات المركزية الأمريكية بالسيطرة على الحكومات المصرية المتعاقبة  سياسيا ، تسيرها بواسطة المعونات واحتكار السلاح وحماية الحكام ، وفقا لمصالح سياسية واقتصادية خارجية .

وفرضت إسرائيل وصايتها  الامنية على سيناء، صاغت الحياة فيها طبقا لمصالحها وخططها، يتحرك فيها مواطنيها بحرية ، لا تتاح لضابط مصرى يرتدى زيه الرسمى ، فارضة توريدات غاز وبترول وتسهيلات سياحية وتسهيلات صناعية بأسعار إحتكارية .
المصرى اليوم ، يكره  ملوكه القدامي  لصالح النبى موسى اليهودى ، رغم أنه طبقا للرواية التوراتية ، سلط على المصريين كل انواع العذابات ، وأغرق جيشهم فى اليم بسحره ..

و المصرى أصبح يضطهد المرأة ويضطهد من يخالفه الراى ، وكل صاحب فكرة مواجهة لتعليمات كهنة الوهابية الأغنياء، يهجرهم من منازلهم .. و يحرقها ..و  يحاكمهم و يسجنهم و يغتالهم إذا لزم الأمر

المصرى أصبح يكره نفسه ( الفرعونية) .. لصالح نفسه ( الوهابية ) وتخلى عن المنطق والفلسفة التى طورها خلال النصف الأول من القرن الماضى ، لصالح السلفية وأفكارها عن الصلاح المرتبط بأداء الفروض ( خاصة العمرة والحج المربحة لأهل الجزيرة )
 المصرى تجاهل الجدية فى العمل ، مقابل مقدرات الغيب واعتزل القراءة لصالح التلاوة ، وهجر المنطق لصالح الفتوى ، وأصبح بناء الجوامع والزوايا مقدم عن المدرسة والمستشفى ، وزيارة الأماكن المقدسة مفضل عن زيارة الأقصر والطواف بين ثلاثة أخماس آثار العالم هناك ،

المصرى المؤمن بتعليمات الوهابية يكره مصر والمصريين ، وكل ما انتجه  القدامى  منهم والمحدثين ، ويود لو انها زالت من الوجود آثار هؤلاء الكفرة الملاعين .

فى مقابل هذا خلقت المدارس الأجنبية والجامعات الأمريكية والأوروبية ، جيلا لا ينتمى الى هذا المكان ، شباب يتحدثون بكل لغات العالم عدا العربية ، ولهم كتبهم ومجلاتهم وأماكن تجمعهم ، وأسلوب حياتهم الأقرب للغرب فى تناقض مضحك ، مع ما يطرحه الوهابيون ،
أبناء الطبقات الجديدة فقدوا الانتماء وفى الغالب الحب لهذا الوطن ، وأصبحت قبلتهم هناك فى عاصمة من عواصم الغرب ، حيث تحترم حريته وتصان خصوصيته ،

أبناء الطبقة الجديدة لا يعملون فى مجالات عمل الآخرين ، لديهم أعمال ومرتبات وأسلوب حياة مختلف ، وهم يعتبرون تواجدهم على هذه الأرض إما مؤقت أو لاستنزافها ونزح خيرها للخارج، حتى لو كانت وسيلتهم لذلك غير شرعية أو غير قانونية.

شباب هذا الوطن الذى ولد ونمى وتعلم وتربى وعمل ، تحت مظلة رئيس ديكتاتور وحيد الرأى .. منذ  أنور السادات  حتي اليوم  ، وحكم بوليسى متحكم بواسطة قوانين الطوارئ ، ومنافسة غير عادلة يحكمها مدى الاقتراب أو البعد عن كراسى السلطة ، نشا وترعرع على عدم الانتماء ، وفقد قدرته على التواءم

المصرى اليوم تخلف عن الركب العالمى بعشرات إن لم يكن مئات السنين ، إن العالم يجرى ويلهث ونحن متوقفون نرقب ونجادل ونصارع ، حول بديهيات خاصة بحقوق الانسان ، واستحقاق المصرى لدستور عصرى وحرية المرأة وعدالة الانتخاب ، و العدالة الإجتماعية و ترشيد الإنفاق والحد من سلطة الطوارئ والأمن وتقديس الواجب والعمل