الصحافة العالمية لا تكف عن إثارة التساؤلات حول مُستقبل مصر فى ظل صعود الإخوان المسلمين إلى السُلطة فى مصر، ومستقبل ذلك على الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، وهذا حديث ربما نعود إليه فى مقالات قادمة.
أما الأهم فى نظرى فهو القلق الشديد بين الاثنى عشر مليوناً أو أكثر الذين صوّتوا لمُنافسه الفريق أحمد شفيق- وضمن هؤلاء فإن الأشد قلقاً هم النساء والأقباط والمُبدعون. وأثيرت فى لقاءات عدة، موضوع المواطنة.
تنص المادة ١٥ من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على أن لكل إنسان الحق فى وطن يعيش فيه ويحمل جنسيته، التى تُعطيه نفس الحقوق وتفرض عليه نفس الواجبات.
وكان هذا الميثاق قد صدر فى العاشر من ديسمبر ١٩٤٨، عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، أى بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، التى أهلكت من البشر، ودمّرت من العُمران ما لم تتسبب فيه حرب أخرى فى التاريخ الإنسانى المُسجل كله. وكان ضمن من شاركوا فى إعداد الميثاق السيدة إليانور روزفلت، أرملة الرئيس الأمريكى الأسبق فرانكلين روزفلت، الذى قاد الحُلفاء إلى النصر ضد ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، واليابان الإمبراطورية.
وكان ضمن لجنة العشرة الذين صاغوا الميثاق، الدبلوماسى المصرى القدير الدكتور محمود عزمى، ولذلك كانت مصر من أوليات دول العالم التى وقّعت على الميثاق، بعد موافقة آخر برلمان وفدى عليه، عام ١٩٥٠، أى قبل ثورة يوليو ١٩٥٢.
والسبب فى هذه الإطلالة التاريخية هو أن مفهوم المواطنة الذى تُشير إليه المادة ١٥ فى الميثاق يتهدده صعود الإسلاميين إلى السُلطة فى مصر فى الآونة الأخيرة، ويشعر بهذا الخطر أكثر من أى مصريين آخرين، الإخوة الأقباط، والنساء، والشيعة المصريون والبهائيون، وقد صدر عن بعض أصوات وأقلام الإخوان المسلمين وحُلفائهم من السلفيين، ما يمكن أن ينطوى على انتقاص من «مواطنتهم»، أى من المُعاملة المتساوية أمام القانون، أو اضطهادهم بسبب اختلاف مُعتقداتهم وأساليب حياتهم.
ومنذ انتخاب الدكتور محمد مُرسى، رئيساً لجمهورية مصر العربية، وأجراس هواتفى الأرضية والمحمولة، تأتى لى برسائل من نساء ورجال، أعرف بعضهم، ولكن لا أعرف مُعظمهم، وكلهم يُرددون نفس الهواجس والمخاوف، مما يمكن أن يحدث لهم فى ظل سُلطة الإخوان المسلمين، بل شاهدت على شاشات التليفزيون، كما شاهد الملايين، مظاهر الصراخ والعويل والبُكاء من مصريين ومصريات، بعد إعلان فوز د. محمد مُرسى بمنصب رئاسة الجمهورية. ورأيت وسمعت، كما رأى وسمع غيرى، بعض هؤلاء يتهمون المُشير طنطاوى والمجلس العسكرى بخداعهم، وخذلانهم، أو خيانتهم، وتسليم الوطن للإخوان المسلمين.
ورغم أننى لا أشارك من يُرددون هذه الاتهامات، ولا أعتقد فى أحاديث الخيانة، أو «المؤامرة»، أو «الصفقات»، إلا أن اللوعة والمرارة التى لمستها، هى فى الواقع وفى العمق خوف مشروع من فقد حق المواطنة، الذى استشعره ومارسه ملايين المصريين خلال أسابيع ثورة يناير ٢٠١١، فهى ثورة توحّد فيها المصريون، نساء ورجالاً، مسلمين وأقباطاً، مؤمنين ومُلحدين، أغنياء ومتوسطين وفقراء. صحيح أن الذين فجّروا شرارتها الأولى كانوا من شباب الطبقة الوسطى، ولكن سرعان ما انضم إليهم، والتف حولهم فى كل ميادين مصر، كل الأطياف والأعمار. وشعر الملايين فى تلك الأيام الثمانية عشر «بمصريتهم»، و«بوطنيتهم»، وبأنهم «فاعلون»، وليسوا «مفعولاً بهم». ومع نجاحهم فى إسقاط الطُغيان الذى جثم على صدورهم ثلاثين عاماً، تكرّست هذه المواطنة المصرية، كما لم تتكرّس منذ لحظات الدراما القومية الكُبرى فى تاريخ مصر الحديث من ثورة ١٩١٩، إلى حرب أكتوبر ١٩٧٣.
إن الحنين إلى تلك المشاعر والذكريات هو تجسيم لمعانى «المواطنة»، وهو ما يُحاول ملايين المصريين أن يقبضوا عليه بالنواجذ. وحينما أتلقى مُكالمة من سيدة قبطية تدعى هُدى، من مُحافظة قنا، تحكى لى- والألم يعتصر صوتها- أن قُرى كاملة قد حوصرت فى مُحافظتها، ومُنعت من الإدلاء بأصواتها سواء فى الانتخابات البرلمانية أو الانتخابات الرئاسية بواسطة مُتشددين إسلاميين، فإننى أشعر بالخطر على مفهوم المواطنة لدى المصريين، والذى تكرّس تدريجياً خلال المائتى سنة الأخيرة، أى منذ انتهاء عصور الجزية من «أهل الكتاب». وقد شعرت بنفس الخطر، حينما تحدث إلىّ راهب قبطى من «عزبة النخل»، وهى إحدى العشوائيات التى تُحيط بمدينة القاهرة الكُبرى، ليسألنى عما عساه أن يفعل مع أبناء كنيسته الذين انتابهم الذعر، بعد فوز حزب الحُرية والعدالة بالأكثرية البرلمانية منذ شهور، ثم برئاسة الجمهورية هذا الأسبوع! إن عدداً كبيراً منهم يُريدون الهجرة أو الفرار إلى مواطن أخرى آمنة.
قلت للسيدة هُدى من قنا، وللأب مكسيموس راعى الكنيسة، مثلما قال الرسول محمد «ص» للمسلمين الأوائل الذين تعرضوا للاضطهاد والتنكيل على يد المُشركين فى مكة «.. صبراً آل ياسر»، ألا صبراً يا أختى هُدى وإلى أخى الراهب القبطى، ولكن إذا ضاقت بكم كل السُبل، وإذا استمرت مخاوفكم أو تضاعفت هواجسكم، فعليكم بالأديرة فى صحارى مصر، فهكذا حافظتم على عقيدتكم المسيحية السمحاء، وعلى ثقافتكم المصرية الأصيلة. ومعهما أرسيتم جذور الوطنية المصرية، منذ القرن الأول الميلادى، ولولا إيمانكم وتمسككم بعقيدتكم ومصريتكم فى وجه الطُغاة على مر العصور، لما هنأنا، نحن أبناء هذا الجيل، مسلمين وأقباطاً، بمصرنا التى أبهرت العالم بتاريخها وبتراثها وبثوراتها. فاصمدوا، واصبروا، فدولة التعصب ساعة، ودولة الحق والمُساواة إلى يوم الساعة. أو كما قال عبدالرحمن ابن خلدون: «إن العدل بين الناس هو أساس العُمران، وزواله يكون مؤذناً بخراب العمران». وأضيف إلى هذا القول الخالد منذ القرن الرابع عشر، ما أضافه د. محمود عزمى، وهو أن «المواطنة» هى جوهر حقوق الإنسان. وحسناً فعل الرئيس المُنتخب محمد مُرسى، زميلى فى سجن المزرعة «٢٠٠٠-٢٠٠٣»، بأنه قابل فى اليوم الأول له بقصر الرئاسة أمهات الشُهداء ورموز الكنائس المصرية. وفقه الله فى حماية مصر ومواطنة جميع المصريين.
وعلى الله قصد السبيل.
نقلًا عن المصري اليوم