بقلم / نجيب محفوظ نجيب .
لقد آن لى أن أرحل ... فدعنى أجفف نهر دموعك الذى يصب فى شريان قلبى ... أقتربت منه و لكن قبل أن أدركه ... مد يديه و أحتوانى بين ذراعيه ... لم أتمالك نفسى ... و لم أستطع أن أكتم دموعى ... فغرست رأسى فى صدره و أخذت أبكى بصوت مسموع ...
 
رفعت رأسى ... و نظرت إلى عينيه التى أحترقت بالدموع ... و قلت له بصوت يملأه الأمل ... " سوف أمضى ... و لكننى سوف أعود من أجلك ... و أنا أثق أنك ستنتظرنى مهما طال الرحيل ... " .
 
ودعته تاركا مشهد دموعه منقوشا فى ذاكرتى ... كما كان عندما ألتقيته لأول مرة...
 
عندما حلقت الطائرة فى عنان السماء...كنت أفكر فى هذا الأنسان الذى ألتقيت به لأول مرة منذ 15 عاما...عندما كنت أصلى القداس الألهى فى إحدى الكنائس الأثرية ... فإذ بى أجد شخصا دموعه تنهمر طوال صلاة القداس الألهى ... يقف بجانبى بجسده فقط ...
أما روحه فهى طائرة محلقة ... تسبح فى السماء ...
 
و بعد أن أنتهت صلاة القداس الألهى ... أقتربت منه ... و سألته عن سبب هذه الدموع ... أبتسم إبتسامة رقيقة ... ثم تركنى و مضى ... أزدادت حيرتى ... و أصبحت أكثر تصميما على معرفة سر هذا الإنسان ...
 
تبعته دون أن يدرى ... و بعد أن دخل بيته بدقائق ... قرعت بابه ففتح لى مبتسما و دعانى للدخول و قبل أن أفتح فمى بكلمة واحدة بادرنى قائلا بصوت رقيق : " إذا أردت أن تعرف لماذا أبكى ... فعدنى أولا أن ما سأقوله لك سوف يبقى سرا "... وعدته بأن أحدا لن يعرف هذا السر ...
قال لى : " بكل بساطة أثناء صلاة القداس الألهى ... أتأمل فى كل كلمة من كلمات القداس الألهى ... فأشعر أن المسيح يحبنى حبا عظيما ... فأجد نفسى غير مستحق لكل هذا الحب ... فتنهمر دموعى لكى تعبر عن عدم إستحقاقى ...
 
عندما قال لى هذه الكلمات ... غرقت فى فكر عميق ... ما هذا الأحساس المرهف ؟! ... هذا الأنسلن يملك إحساسا رقيقا شفافا ... يعبر بجسده حدود الزمان و المكان ... و يحلق بروحه فى أفق السماء ...
 
و منذ هذا اليوم و انا قريب من هذا الأنسان ...لا أكاد أفارقه ... لدرجة أننى عندما أشعر بأن همومى قد ثقلت على ... يكفينى أن أذهب إليه و أبقى الى جانبه مستمعا إليه و هو يقرأ فى الأنجيل ثم وهو يصلى من الأجبية ... رافعا قلبه نحو المسيح فى إنسحاق عجيب ... فأجد نفسى قد أستراحت و هموم العالم قد زالت عنى ...
 
و من الغريب أننا لا نتحدث كثيرا لأنه لا يحب الكلام ... فبالرغم من أننا نجلس سويا وقتا طويلا و لكنه يؤثر التأمل دائما ... فكنت أشعر بمدى عمقه ... لأن صمته كان أعمق و أبلغ من أى كلام ...
 
يمضى الوقت ... و لا يزال فكرى متعلقا بهذا الشخص الذى لا يملك شهادات علمية ... و لكنه يملك ما هو أعظم من الشهادات ... فقلبه ملىء بالإيمان الحى ... لأن كثيرا ما كانت تعصف بحياته رياحا قوية و أعاصيرعاتية ... تتحطم أمامها الجبال... و لكن كنت أجده دائما ثابتا راسخا ... لا تؤثر فيه رياحا و لا تثنيه عن عزمه أعاصير ... و كانت كلمته التى يرددها فى وقت الألم و الضيق ... و التى كانت تعبر عن عمق إيمانه  : " ربنا موجود ... " و حقا كان المسيح موجودا دائما ... يحول الألم و الضيق إلى فرح و تعزية ... خمسة عشر عاما أمضيتها فى مدرسة هذا الإنسان الذى علمنى فلسفة البساطة ... أو بمعنى آخر بساطة الفلسفة ...
 
و ها أنا الآن أعود الى الحاضر ... محاولا أن أدرك ... أتنبه لما يحدث حولى ... فها هى الطائرة تهبط على أرض الولايات المتحدة الأمريكية ... و بمجرد إنتهاء إجراءات الوصول ... توجهت إلى إحدى المستشفيات ... حيث بدأت رحلتى مع الفحوصات و التحاليل ... رحلة مؤلمة و شاقة ...
و فى أحد الأيام بينما كنت أرقد مريضا بين يدى أحد الأطباء ... الذى بمجرد أن أنتهى من إجراء بعض التحاليل...أقترب منى و همس قائلا : " إنى متعجب من أمرك !!! ... فابالرغم من معرفتك بخطورة مرضك ... و بالرغم من شعورك بالألم ... ألمس فيك قوة خفية تظهر فى إبتسامتك التى لا تفارق وجهك ... فما سر هذه الإبتسامة  ؟!! ... قلت له مبتسما : " ليس سرا... و لكنه إيمان يكمن فى أعماقى و قد ورثته عن أجدادى ... أن روحى ليست ملكى وحدى... فهى ملك المسيح الذى منحها لى ... فأن أراد أن يستردها ... فمن أعماق قلبى أقول له : " من يديك أعطيناك..." ... إزداد تعجب الطبيب و أبتسم و هو يودعنى قائلا : " حقا أن إيمانك بمسيحك هو إيمان قوى ..." .
 
تمر الأيام...و إذ بنفس الطبيب يأتينى مبتسما قائلا بصوت يملأه القرح : " تستطيع الآن أن تطمئن على حياتك ... لأن التحاليل أثبتت أن المرض الذى لديك ليس خطيرا ..." .
 
تلقيت الخبر بهدوء دونما أى إنفعال ...
حزنت لأنه لم تتح لى فرصة حمل الصليب ... و فى نفس الوقت تعزيت عندما أدركت أن المسيح قد أمد فى عمرى ليس من أجلى و لكن من أجل الأنسان الذى تركته فى مصر ...
 
عند عودتى إلى مصر ... توجهت الى الكنيسة لكى أقدم الشكر للمسيح الذى تمجد فى حياتى و شفانى من مرض خطير ... ثم توجهت بعد هذا إلى منزل الإنسان الذى أحببته أكثر من نفسى ... فوجدت أن صخور جبل المقطم قد إنهارت و حطمت المنزل و كان هو بداخله ... ففارق الحياة و أنتقل الى السماء ... كانت المفاجأة حزينة بالنسبة لى ... فكم هى قاسية تلك الحياة ... تجعلنا نحب ... و نهيم بمن نحب ... كأننا نرفرف بأجنحة سحرية فى سماء ليس لها نهاية ... و عندما نظن أننا قد بلغنا القمة ... تتركنا نتهاوى و نتحطم فوق صخور الواقع ... فكلما نتوق الى اللقاء لا نجد أمامنا سوى الفراق ... و كم و كم عانيت من آلام الفراق...
 
لا ... لا أيها الإنسان الحبيب ...لن تكون نجما أشرق فى سمائى ثم خبا عند صياح الديك ... ولكنك سوف تبقى دائما فجرا يشرق لكى يعلن عن ميلادا جديدا للحياة ...