د.عبدالخالق حسين
من المعروف أن معظم مؤسسي وقيادات أحزاب الإسلام السياسي، ومليشياتها في العالم الإسلامي ليسوا من رجال الدين، وإنما من مهن مدنية مختلفة، صحفيين، مهندسين، أطباء...الخ... يستغلون الدين ومشاعر الناس الدينية لاستلام السلطة، وقد أشرنا إلى هذه المسألة وبالأسماء سابقاً.
وباسم الدين، يمنح الإسلاميون أنفسهم الحق المطلق في حكم شعوبهم، بذريعة حماية الدين، والمذهب، والإيمان بالله، والفضيلة والكرامة، والأخلاق، وهويتنا الدينية والمذهبية، ومحاربة الإلحاد والرذيلة، وكل ما يهدد أعرافنا، وتقاليدنا، وثقافتنا الاجتماعية الموروثة من الآباء والأجداد والسلف الصالح، والإدعاء بأن قيمنا الاجتماعية والإنسانية مهددة من قبل العولمة، والحضارة الغربية التي يلصقون بها شتى النعوت البذيئة. ويدَّعون أن غرض تحالف الغرب "الصليبي- الصهيوني" هو نشر الإباحية، والقضاء على ديننا، واستعمار بلداننا، وهتك أعراضنا، و نهب ثرواتنا...إلى آخر القائمة الطويلة التي أضافوا إليها القضية الفلسطينية، و أدعوا أن لا حل لها إلا بزوال إسرائيل، وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر!! وبذلك فقد أساؤوا إلى هذه القضية العادلة، وقدموا خدمة مجانية كبيرة إلى اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة بنجامين نتن ياهو، والحركة الصهيونية العالمية في التمادي والإمعان في ظلم الشعب الفلسطيني.
والمفارقة، أن الإسلاميين الحاقدين على الدول الغربية، وحضارتها وديمقراطيتها، عند تعرضهم للشدائد وفرارهم من جور حكوماتهم، يفضلون اللجوء إلى الدول الغربية، والعيش فيها، لأنهم يعرفون أن هذه الدول، وليست الأنظمة الإسلامية، هي التي تلتزم بحكم القانون، وحقوق الإنسان، وتحقق لهم العيش الكريم في منافيهم.
ولتحقيق أغراضهم المعلنة، والنبيلة في الظاهر، زج الإسلاميون الدين بالسياسة والسياسة بالدين، وشكلوا احزابهم السياسية الدينية، ومنظماتهم الإلرهابية مثل القاعدة، وطالبان، وداعش، وبكو حرام وغيرها، ورفعوا شعار (لا حل إلا بالإسلام)، و(القرآن دستورنا، والرسول زعيمنا، والموت سبيلنا)، وراحوا يجندون الشباب المسلم للموت، مستغلين جهلهم وحرمانهم من كل شيء، فعرَّضوهم لعملية غسيل الدماغ، وحولوهم إلى أدوات طيعة (روبوتات)، لتنفيذ أوامرهم في ارتكاب الإرهاب، وأبشع الجرائم بحق الإنسانية، وبالأخص بحق أبناء شعوبهم من قتل، وهتك العرض، ونشر الخراب والدمار، وباسم الله والإسلام.
كما أدعوا أنهم مع الديمقراطية، ويحترمون نتائج الانتخابات، والتداول السلمي للسلطة، تماما كما يجري في الدول الديمقراطية الناضجة في الغرب والشرق. لذلك تأثر بهم كثيرون بدوافع دينية ومذهبية وأيديولوجية، وحتى من العلمانيين من أصحاب النوايا الحسنة صدقوا إدعاءاتهم، وقالوا لنعطيهم الفرصة، حيث فشل العلمانيون من القوميين واليساريين، و أدعياء الديمقراطية المزيفة في توفير الخبز والكرامة لشعوبهم، فعسى ولعل أن ينجح الإسلاميون في ذلك، لنجربهم، و لِمَ لا؟
وهكذا نجح الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي في السيطرة على السلطة في عدد من البلدان الإسلامية، وبمختلف الطرق. فقد نجح (الأخوان المسلمون) عن طريق الانتخابات في مصر، وغزة، و بانقلاب عسكري في السودان، وطالبان في أفغانستان بدعم من الغرب لمحاربة النظام الشيوعي فيها.
وأما الإسلام السياسي الشيعي فقد استلم السلطة في إيران بالثورة الشعبية بقيادة السيد روح الله الخميني على نظام الشاه، والعراق بالانتخابات الديمقراطية بعد إسقاط النظام البعثي الصدامي على يد التحالف الدولي بقيادة أمريكا.
فماذا كانت النتيجة؟
هل نجح الإسلاميون الذين هيمنوا على السلطة في هذه البلدان في تحقيق ما وعدوا به شعوبهم الفقيرة المغلوبة على أمرها؟ الجواب: كلا، وألف كلا، بل جعلوا أوضاع شعوبهم أسوأ آلاف المرات عما كانت عليه من قبل، إضافة إلى تفاقم الفساد والرذيلة، والإلحاد، ونفور الناس من الدين، ونشر الخرافة والدجل والسحر والشعوذة، وتفشي البغاء، و إدمان الشباب على المخدرات وغيرها كثير من الرذائل. فالأجيال الحاضرة شهود عيان على هذه الأحداث الدموية، والتجارب المأساوية المريرة التي حصلت خلال الأربعة عقود الماضية على أيدي الإسلاميين سواءً كانوا في السلطة حيث يمارسون إرهاب الدولة، أو خارجها من جرائم وحشية تمارسها منظماتهم الإرهابية.
وقد ذكرنا هذه النتائج المفجعة بالأرقام الموثقة في مقالنا السابق الموسوم: (لماذا الدعوة لتدمير العراق في سبيل إيران؟)(1). وعلى سبيل المثال لا الحصر، بلغتْ نسبة الإلحاد في إيران نحو 30%، وهي الأعلى في العالم. فهناك فرق شاسع نحو الأسوأ في نفور الناس من الدين في إيران مقارنة مع ما كان عليه في عهد الشاه. كذلك كشفت دراسات أخرى نفس نسبة الإلحاد في العراق والسعودية بسبب الضغوط الدينية، ومنع الناس من ممارسة حياتهم كما يرغبون، مخالفين بذلك قول الله في القرآن الكريم: (لا إكراه في الدين)، ولكن الإسلاميين يُكرِهون الناس في الدين رغماً عنهم وهذا الأكراه أهم عامل في نفور الناس من الدين.
والجدير بالذكر، أنه عندما ذكرتُ هذه الأرقام عن نسبة الإلحاد، وتفشي الفساد، والبغاء، والمخدرات، وابتعاد الناس عن الدين في ظل الحكم الإسلامي في إيران، ونشرت في الهامش رابط فيديو نشاهد فيه تظاهرة نسائية إيرانية احتجاجاً على الحكم الإسلامي في إيران، علق صديق إسلامي أنه شعر بالألم والأسف عليَّ أنا، لأني صدقت هذه الدعايات التي وصفها بالمضادة، يبثها الإعلام الغربي "الصليبي الصهيوني" لتشويه صورة النظام الإسلامي، على حد قوله. بينما كان المفروض به أن يتألم على الشعب الإيراني المحروم من الحرية والتمتع بثرواته بسبب حكومته الشمولية، وأن يتعاطف مع تلك المجموعة من النساء الإيرانيات الجريئات في تظاهراتهن الاحتجاجية، لا أن يلصق بهنَّ تهمة العمالة للصهيونية.
وفي العراق بلغ الفساد، والبغاء، وتفشي المخدرات في ظل حكم الأحزاب الإسلامية ومليشياتها حداً لم يعرفه البلد من قبل في جميع مراحل تاريخه. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نشرت الصحافة العراقية قبل أيام تقريراً بعنوان: (الأمن الوطني يفكك "أخطر" خمس شبكات للمخدرات في النجف)(2). نعم، في مدينة النجف التي هي مدينة دينية مقدسة عند الشيعة لأنها تضم ضريح الإمام علي، وهي عاصمة الشيعة في العالم أشبه بالفاتيكان عند الكاثوليك. وإذا كان هذا يحصل في النجف المقدسة، فماذا عن المدن الأخرى؟ فهل هذا التقرير من صنع الإعلام الغربي "الصليبي- الصهيوني" لتشويه صورة الإسلام السياسي في العراق؟
ما هو مستقبل الأنظمة الإسلامية؟
في مصر استغل حزب الأخوان المسلمين انتفاضات الربيعي العربي، واختطفوها من الجماهير، لأنهم الحزب الوحيد المنظم، أما الأحزاب العلمانية فكانت ضعيفة ومفتته بسبب القمع من مختلف الحكومات المتعاقبة، والجماهير بلا تنظيم أو قيادة موحدة. لذلك فاز الإسلاميون في الانتخابات، وسيطروا على السلطة عام 2012. ولكن بدلاً من استغلال الفرصة لخدمة شعبهم وكسب ثقته، أصابهم الغرور، وركبوا رؤوسهم، وقاموا بعملية أسلمة المجتمع، واضطهدوا اتباع الديانات الأخرى، وكل من لا يتفق مع سياساتهم، فتفاقمت مشاكل الجماهير المعيشية، لذا خرج نحو 30 مليون في تظاهرات احتجاجية في جميع أنحاء مصر مطالبة بإسقاط الحكم الإسلامي. ولحسن حظ الشعب المصري والبشرية جمعاء، أن قام الجيش بقيادة المشير عبدالفتاح السيسي بالاستجابة إلى جماهير الشعب الغاضبة على حكومة محمد مرسي (الأخواني، التي ما كانت أقل خطورة على البشرية من حكومة النازية الألمانية، فأسقطها بثورة 3 يوليو/تموز 2013.
نفس العملية حصلت في السودان بعد أكثر من 30 سنة من حكم المشير عمر حسن البشير (الإسلامي الأخواني)، الذي دمر البلاد والعباد بحروبه الداخلية العبثية التي قسمت السودان إلى دولتين، وفاقمت الأزمات المعيشية، وتفشي الفساد والفقر والدمار، انتهى بانتفاضة الشعب السوداني، ووقوف الجيش إلى جانب الشعب، وإسقاط نظام البشير إلى غير رجعة في يوم 11 أبريل 2019.
وأما النظام الإسلامي في إيران، فهو بقاءه قائم باستخدام القبضة الحديدية في قمع الجماهير الساخطة التي انتفضت مراراً على السلطة الدينية، فقمعت باستخدام أقسى وسائل القمع... ولكن إلى متى؟
وكذلك الحال في العراق، حيث تفشي الفساد، والبطالة، والتردي الفظيع في الخدمات، والأزمة المالية إلى حد أن أعلنت الحكومة عن عجزها في دفع رواتب موظفيها. ونتيجة لهذا الوضع المأساوي انفجرت الجماهير وخاصة الشباب، بانتفاضة شعبية واسعة في بغداد، ومحافظات الوسط والجنوب ذات الأغلبية الشيعية على الأحزاب الإسلامية الشيعية الحاكمة، والتي بدأت منذ الأول من تشرين الأول عام 2019 ولحد الآن، ورغم أنها واجهت ومازالت تواجه القمع الفظيع من قبل المليشيات الموالية لإيران، إلا إنها مازالت مستمرة، ولا بد أن تنتصر.
الاستنتاج
ومن كل ما سبق، نستنتج أن الأنظمة الإسلامية فشلت في حكم شعوبها، وجلبت الدمار الشامل عليها، ولا بد أن يكون مصيرها الزوال إن عاجلاً أو آجلاً. وما يعقِّد المشكلة أن أغلب الإسلاميين يعتقدون باحتكارهم للحقيقة اليقينية المطلقة استمدوها من الله مباشرة، وكل من يخالفهم هو عدو الله يستحق الفناء. يقول نيتشة: "ليس الشك، وإنما اليقين،هو الذي يقتل". لذلك ندعو قادة ومؤيدي الإسلام السياسي والحكومات الإسلامية، أن يعيدوا النظر في جدوى أيديولوجيتهم الشمولية التي انتهى مفعولها، وأن يفكروا بمستقبل شعوبهم ومصالحها، والاعتراف بأنهم فشلوا في تحقيق ما وعدوا به شعوبهم.
والسبب الرئيسي لفشل الإسلام السياسي في الحكم أنهم ضد قوانين حركة التاريخ ومساره، وجهلهم بالطبيعة البشرية، وعدم إدراكهم أن المرحلة قد تجاوزتهم. فالمرحلة هي للعولمة والديمقراطية، وثورة التقنية المعلوماتية مثل الانترنت، والفضائيات، وسرعة التواصل والاتصالات، التي سارعت في التقارب بين الشعوب والأخوة الإنسانية، وسهلت كسب المعارف ونشر ثقافة التنوير، وجعلت من عالمنا قرية كونية صغرى، حيث أصبحت المشاكل المحلية مثل الإرهاب، والأوبئة، والأزمات الاقتصادية، وحروب إبادة الجنس وغيرها، مشاكل عالمية ولا بد من تضافر جهود المجتمع الدولي في المساهمة في حلها.
ولكن المشكلة وكما تفيد الحكمة: "أن البشر لا يتبعون الطرق الصحيحة لحل المشاكل إلا بعد أن يستنفدوا جميع الطرق الخاطئة". وهذه الطريقة مكلفة وباهظة ، إذ تزيد من عذابات الشعوب. ولكن من المؤكد أن مرحلة الأيديولوجيات والأنظمة الشمولية قد انتهت إلى غير رجعة، ومهما تأخر سقوطها، وبدأت مرحلة العولمة والعلمانية الديمقراطية وحكم الشعوب. وقد آن الأوان أكثر من أي وقت مضى الحاجة الماسة إلى تبني نظام العلمانية الديمقراطية، وتطبيق مبدأ (الدين لله والوطن للجميع).
فهل من يسمع؟