خالد عكاشة
عدة أسباب تقف وراء تجدد القصف التركى مرة أخرى على منطقة «عين عيسى» بالشمال السورى، يتمثل أهمها فى رمزية تلك المنطقة الواقعة بشمال شرق سوريا بالنسبة للإدارة الذاتية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية «قسد»، فهى بمثابة العاصمة الإدارية لها منذ تمكنت من السيطرة عليها بدعم من التحالف الدولى لمحاربة «داعش» قبل خمس سنوات. لذلك فالمستهدف التركى، عبر سنوات مضت، هو ضرب أية رمزية كردية، فالعداء التركى المطلق للمشروعات الكردية بالمنطقة يسبق عادة أطماعها الحاضرة هى الأخرى ضمن جملة الأسباب. فمن جهة مقابلة هناك رغبة ظاهرة فى أن تضع أنقرة يدها على الطريق الدولى (M 4) الذى يربط بين حلب والقامشلى، وهو ما ستكون محصلته سيطرة وهيمنة تركيا على غالبية مناطق شمال سوريا وشرقها، واختراق خاصرتها الاقتصادية حتى شمال العراق، نظراً لما لهذا الطريق من أهمية سياسية وأمنية واقتصادية حيوية.

«عين عيسى» مرة أخرى؛ تحقق لتركيا، فى حال تمكنت من احتلالها، استكمال أهداف عملياتها العسكرية الثلاث السابقة، وهى قطع أوصال مناطق الإدارة الذاتية الكردية فيما بينها جغرافياً، ولهذا تعتبرها «قلب» هذه المنطقة، فضلاً عن كونها ستمكنها من محاصرة مدينتى «كوبانى» و«منبج»، بل وستفتح لها الطريق إلى احتلالهما مستقبلاً. فأنقرة تراهن فى الوقت الراهن على تعميق الخلاف ما بين المكونات الكردية بعضها وبعض، فهناك «المجلس الوطنى الكردى» المنضوى فى إطار الائتلاف السورى الذى يتخذ من تركيا مقراً له، وهو الطرف الآخر من الحوار الكردى / الكردى الجارى الآن برعاية أمريكية، بدا وقد تبنى وجهة النظر التركية، وهو ما ينذر بتعثر وفشل الوصول إلى صيغة «شمال سورى» موحد، حين بدأ فى رفع سقف شروطه وخلط كثير من الأوراق التى سبق الاتفاق عليها. فالمشروع التركى الحقيقى فى شمال سوريا وشرقها، والذى يتماهى معه المجلس الوطنى الكردى، هو السيطرة التدريجية على كامل هذه المنطقة، والتى بدأتها القوات التركية بعمليات التطهير العرقى والتغيير الديموغرافى، فضلاً عن الشروع فى إقامة بنية خدمية فيها مرتبطة مباشرة بتركيا. تظل المخططات التركية فى كل الأحوال هى الظاهرة للعيان ولا تحتاج لتفسير كبير باعتبار رغبتها المباشرة فى احتلال الأراضى، وعبر أذرعها «الميليشياتية» وغيرها من تنظيمات الإرهاب التى تقوم بتشغيلها وإدارتها على أراضى الصراع. أما الأطراف الأخرى فهى الأكثر غموضاً والأسرع مرونة فى تغيير تكتيكاتها، وفق المتغيرات السياسية والعملياتية وداخل فجوات وإخفاقات الأطراف الأخرى، وهى اليوم تتمثل فى قوى ثلاث الولايات المتحدة وروسيا وقوات النظام السورى. الأسبوع الماضى بدأت تحركات أمريكية تعطى مؤشرات جديدة، تزامناً مع الاستعداد لإدارة جديدة قد تحمل ما هو جديد للمشهد السورى. قائد القوات الأمريكية فى الشرق الأوسط، الجنرال «كنيت ماكنزى»، قام بزيارة لقاعدة «التنف» العسكرية فى البادية السورية، وبعدها مباشرة استقبل القائد العسكرى لقوات «قسد»، الجنرال مظلوم عبدى، القائد الأمريكى فى مقره الرئيسى بمحافظة الحسكة. اللقاء بحث بصورة معمقة ما تقوم به تركيا فى «عين عيسى»، والحدود التى يمكن لـ«قسد» أن تذهب إليها فى مفاوضاتها الجارية مع الروس والنظام السورى، وهو لقاء أعطى للأكراد دعماً نسبياً بعد أن كان النظام على وشك الدخول إلى «عين عيسى» ومحيطها.

فى حين قرأ النظام هذه الزيارة باعتبارها تستهدف كسب المزيد من الوقت إلى حين وصول الرئيس الأمريكى الجديد «جو بايدن» إلى السلطة، ومن ثم تبدأ عملية طرح الملفات الإشكالية ما بين تركيا و«قسد»، مثل «منبج» و«تل رفعت» وغيرهما من المناطق التى تضع فيها تركيا قواتها العسكرية بالمرصاد لأى تحرك كردى. هناك من يرى أن الولايات المتحدة تعيد على هذا النحو، ترتيب أولويات وجودها هى نفسها ومساحات نفوذها التى تأثرت بشدة، خلال فترة التراجع الذى قادته الإدارة التى رأسها دونالد ترامب. فالجنرال «ماكنزى» يرى أن أنقرة تسابق الزمن لتوسيع مناطق سيطرتها فى الشمال السورى، وأن هذا الأمر سيكون على حساب الاستقرار الأمريكى الذى سيصعب علاجه، بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض فى يناير. وهنا تبدو روسيا كمحرك «خبيث» لهذا الخلاف الاستباقى ما بين تركيا والولايات المتحدة، والمعادلات على الأرض تشى بأنها هى الأكثر استفادة من هذا السباق، فهى تقف خلف النظام تدفعه بقوة لإقرار اتفاقيات تسوية مع المكون الكردى، من أجل ضمانة الدخول بـ«الشرطة العسكرية» الروسية إلى مناطق الشمال السورى، كما كانت على وشك الاتفاق مع الأكراد قبيل عودة الجنرال الأمريكى إلى المنطقة.

ولهذا يرى الكثيرون أن روسيا قد تعيد الدرس القاسى الذى أذاقته للأكراد عام 2018، حين رفضت «قسد» تسليم النظام السورى منطقة عفرين، خلال المفاوضات التى جرت فى حلب، حينها كان العقاب الروسى غالياً حين سكتت عن تركيا التى شنت عملية «غصن الزيتون» العسكرية، التى أسفرت عن سيطرة تركيا والميليشيات المسلحة الموالية لها على «عفرين»، وحصر حينها نشاط «قسد» فى جيب صغير شرقى «عفرين». لذلك بالعودة إلى «عين عيسى» يشار هنا إلى أن موسكو اختارت السكوت على الهجوم العسكرى التركى الممتد منذ شهور، ليظل المكون الكردى أمام معادلة صعبة كانت قد طرحتها روسيا عبر قنوات دبلوماسية للإدارة الذاتية، وهى إما تسليم قوات سوريا الديمقراطية منطقة «عين عيسى» للنظام السورى أو أن الغزو والاحتلال التركى قادم لا محالة، فى صيغة حملت طابع الابتزاز الصريح. فثمة سوابق لا تستبعد هذا الطرح، أن يكون هناك بعض المقايضات والاتفاقيات بين تركيا وروسيا تخص «عين عيسى»، مثلما جرى قبلاً بخصوص إدلب، وسوف تخرج المقايضات الجديدة إلى العلن لاحقاً مثل تكشف ما جرى التوافق عليه بينهما فى مناطق أخرى. الأكراد هذه الأيام يتحسبون من الوقوع فى خطأ الاستسلام للحلول الروسية، فهذه المرة يبدو ظهرهم مسنوداً لحائط لا سبيل للتراجع أمتاراً قليلة عنه، كما تلوح أمامهم انفراجة تحرك أمريكى جديد قد يعيد الدماء مرة أخرى لشرايين القوة الكردية.
نقلا عن الوطن