بقلم: د.وجدي ثابت
لو قرأت بعض التصريحات المنشورة بالصحف المصرية في ورقة إجابة طالب بالسنة الأولى بكلية الحقوق في "فرنسا"، وطبقًا لمعايير الصحة والسلامة العلمية، لرسب الطالب في مادة القانون الدستوري رسوبًا لا ينقذه منه لا رأفة ولا شفقة ولا طعن ولا مراجعة. وعندما أعيد قراءة التصريحات، وتقع عينى على أسماء أصحابها، لا تصدق عيني ما أرى، ولا يمكن أن أتصور أن يصدر مستشار في النقض أو أستاذ في القانون الدستوري عن جهل مثل هذه التصريحات!.
بقى إذن الاحتمال الآخر، وهو الأسوأ من الجهل، ألا وهو سوء النية والأيديولوجية الحزبية. ومعنى ذلك تطويع العلم في خدمة أهداف سياسية، وهو عار على أستاذ القانون وعلى المشتغلين به، وهذه هي بعض الأمثلة التي يجب تصحيح الرأي فيها:
1- ليس صحيحًا أن رئيس الجمهورية يملك سلطة إلغاء الإعلان الدستوري أو أية قواعد دستورية تضمنها الإعلان المكمل. فالإعلان الدستوري الصادر في مارس والإعلان المكمل لا يمكن إلغائهما إلا ممن يملك سلطة سن قواعد دستورية بوصفه السلطة الانتقالية الوحيدة التي باشرت ويمكن أن تباشر الآن هذا الاختصاص. وقطعًا لا تمارس هذه الصلاحية بواسطة السلطة التنفيذية التي يباشرها الرئيس المنتخب، والتي لا علاقة لها البتة بسلطة إلغاء أو تعديل قواعد ذات طبيعة دستورية.
2- التسليم بعكس ذلك مقتضاه أن الرئيس يملك أن يضع قواعد دستورية أو يخالفها أو يلغيها دون قيود أو ضوابط يقررها له دستور سابق في الوجود على إعمال سلطاته في هذا المجال، فليس ثمة دستور قائم بعد يعطي الرئيس صاحب السلطة التنفيذية سلطة إلغاء القواعد الدستورية، كما لا يجوز للرئيس في الوضع القانوني الراهن أن يمارس السلطة التشريعية التي تحق للبرلمان بعد انتخابه من جديد. أما عن سريان الإعلان الدستوري وتعديلاته المكملة فهو قائم، إما حتى العمل بالدستور الجديد أو حتى يقوم من أصدره بإلغاءه بإرادة منفردة، فلا اختصاص للقضاء بالفصل بإلغاء الإعلان لأنه ليس عملًا إداريًا، وكل ذلك تحكمه قاعدة منطقية وقانونية وهي تقابل الأشكال، ومن مقتضاها أن قاعدة دستورية لا تُلغى إلا بقاعدة دستورية أخرى تصدرها جهة الاختصاص، وهي كما قلنا المجلس العسكري كسلطة انتقالية. وتبعًا لذلك، فالحل الوحيد إذا شئنا إلغاء الإعلان التكميلي هو أن يطلب من المجلس العسكري ذاته أن يلغيه، دون أن يكون ثمة معقب على قراره بالسلب أو الإيجاب.
هناك حل آخر، وهو أن يتضمن الدستور الجديد نصوصًا انتقالية تتضمن إلغاء النصوص الواردة في الإعلانات الدستورية الانتقالية. أما أن نقول إن رئيس الجمهورية يملك السلطة التأسيسية والتنفيذية، فهو تسليم بتركيز للسلطات في يد واحدة مناقض لكافة المبادئ والأعراف الدستورية، ولا يقوم على أي أساس قانوني. والغريب أنه رأي قد تردد أخيرًا على لسان أساتذة للقانون درسوا طيلة حياتهم العلمية المبادئ الدستورية العامة، وأهمها الفصل بين السلطات، وقولهم بأن الرئيس يستطيع أن يركز بين يديه السلطة التشريعية وما يترتب عليها من سلطة إلغاء قواعد ذات طبيعة دستورية، هو خطا علمي فاحش، وجهل بكل الأسس القانونية التي يقوم عليها توزيع الاختصاصات بين السلطات العامة. وواقع الأمر أن المجلس العسكري هو السلطة الانتقالية، وفي غياب مجلس الشعب يزاول السلطة التشريعية مؤقتًا، بينما يستقل رئيس الجمهورية بالسلطة التنفيذية، وهي السلطة العامة الوحيدة التي انتقلت إليه بعد حلف اليمين، وليس أي سلطة عداها.
3- يقول البعض أن الإعلان الدستوري المكمل مخالف لكل قواعد الدستور، ولا أدري أي دستور بالتحديد، فدستور ١٩٧١ غير معمول به، ولا توجد أية قاعدة دستورية تجبر السلطة الانتقالية أن تسير في الاتجاه المرسوم لها بواسطة حزب أو أغلبية برلمانية منحلة أو ساقطة، ولا أدرى أي ميزه نجدها في تركيز السلطات في أيدي رئيس الجمهورية بدلًا من توزيعها بينه وبين المجلس العسكري بصفة مؤقتة وحتى انتهاء انتخابات مجلس الشعب الجديدة. إن طبيعة الفترة الانتقالية هي التي تقتضي وجود السلطة الانتقالية وممارستها لسلطات تتجاوز السلطات العادية للمؤسسات في الظروف العادية، ومن الخطأ أن نتصور أن الفترة الانتقالية قد انتهت بانتخاب رئيس الجمهورية؛ لأننا حاليًا بدون مجلس شعب قادر على الانعقاد وممارسة مهامه الدستورية، ولأننا أيضًا بدون دستور موضوع يحدد سلطات الدولة، ويرسم لها اختصاصاتها بصورة تفصيلية، ويحدد علاقة هذه السلطات فيما بينها. والمسئول الأول عن هذه الحالة هي الأحزاب، التي ضغطت من أجل عمل جمعية تأسيسية معيبة التكوين، وقانون انتخابي ينطوي هو الآخر على عيوب دستورية جسيمة. فصناع القانون الفاسد والتأسيسية المنحلة هم المسؤولون عن إطالة أمد الفترة الانتقالية، وعن بقاء المجلس العسكري، ولا يلومن إلا أنفسهم لهذا الواقع المرير الذي يعيشه الشعب، بسبب رغبتهم التي لا تُطفأ في الاستحواذ والهيمنة، وليس القضاء الذي يجازى عن العيب، ولا الجهاز الذي يبصر بمواضع القصور ومواطن الزلل الذي يُسئل عما نحن فيه, ولكن من عجز عن تأسيس عمل قانوني واحد مشروع ومكتمل حتى نهايته. إن من يخلق القانون الفاسد والإجراء غير الصحيح ويدرجه في الكيان القانوني ثم يتحايل بكل الطرق ليفرض علينا سياسة الأمر الواقع، وقد استهوته مراءة المنتصر وممالاة الغالب، هو المسؤول الوحيد عن التخبط القانوني والدستورى الحالي، وكأن أساتذة القانون نسوا علمهم، وبات همهم الوحيد هو انقاذ حزب وأعماله، ولو كان الثمن هو تصريحات تنطوي على أخطاء قانونية جسيمة.
4- منذ متى يختص القاضي الإداري بالنظر في قرار المجلس الانتقالي بوضع موضع التنفيذ حكم الدستورية بحل مجلس الشعب، وأقصد هنا القرار رقم ٣٥٠ لسنة ٢٠١٢؟ فالقرار المطعون فيه ليس قرارًا إداريًا وإنما قرار تنفيذي لحكم قضائي غير قابل للانفصال عنه، وليست له طبيعة الأعمال الإدارية. وكيف يجهل أستاذ القانون هذا التكييف القانون؟ وكيف يجرؤ أن يصادر على رأي القاضي الإداري الذي لم ينظر بعد الدعوى، ويدّعي أن نسبة إلغاء قرار لا يدخل أصلًا في اختصاص القضاء الإداري هي أكثر من ٩٠ في المائة؟ وكيف يتجاهل "جهبذ" آخر حيثيات حكم برمتها، وكما صنع في الماضي قاضي انتدب خبيرًا يقلب له صفحات التقنين المدني عندما ثقل عليه أن يقلبها بنفسه، وتراه اليوم يصنع ذات الشئ، وبدلًا من أن يتصفح بنفسه حكم المحكمة الدستورية ينتظر للإحالة إلى قاض يقرأ له معنى ومغزى حكم شديد الوضوح في أسبابه.
لا أدرى ما جرى لأساتذة القانون، ولا ما جرى في بلادي، ولكن كل ما أدريه أن أستاذ الجامعة والقاضي الحزبي ليس لهما على الآخرين حقوق السيادة، ولكن سلطان وحجية الخبير، وهو ما افتقرت إليه بعض الآراء التي طالعتنا بها الصحف لمن نسميهم خبراء وفقهاء، وهي تعادل في الخطأ الفادح ما نراه في بعض أوراق إجابة طلاب السنة الأولى بكليات الحقوق.
دكتور وجدي ثابت غبريال
أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق