الأنبا إرميا
تحدثت المقالة السابقة عن فكرة: «التعايش معًا»، وكيف أنه مِفتاح الاستقرار والنجاح والازدهار، فـ«معًا» تنشأ القوة وتدوم ويتحقق التميز وسرعة الإنجاز. وإن كان «قَبول التنوع» وقدرة «التعايش معًا» يقودان إلى سلام المجتمع وتقدمه، فإنهما لن يتحققا إلا بمبدإِ «احترام كل منا للآخر». إن «التعايش باحترام» لمن أهم قواعد المعايشة بين أفراد المجتمع، وهو سر رقىّ المجتمعات وسموها، فلا تقدم لها إلا بأن تغرس فى أبنائها جميع معانى النبل والأصالة والاحترام. وجميعنا يُدرك جيدًا أن الاحترام يُعد إحدى حاجات الإنسان النفسية الأساسية كاحتياج الهواء والماء والطعام.
وفى إطلالة لغوية سريعة، نجد أن لفظة «احترام» اسم مشتق من الفعل «احترمَ»، و«احترام الذات»: يعنى احترام النفس والشعور بالكرامة، و«جدير بالاحترام»: أى جدير بالتقدير والاعتبار. أمّا تعبير «يكنّ له كل احترام» فمعناه أنه يوقره ويُجلّه.
وفى أساسنا الإنسانى، يجب أن يحترم بعضنا بعضًا؛ لأن جميعنا يحمل السمات الإنسانية نفسها التى خلقنا الله وفطرنا عليها. فالله خلقنا جميعنا بشرًا، نملك مشاعر إنسانية راقية، حَرِىّ بها أن توجَّه إلى جميع البشر؛ ومن ثَم نُدرك أن احترام كل منا للآخر هو احترام لعمل الله فى خليقته بغض النظر عن اختلافاتهم. يقولون: «عندما لا تشعر بمن حولك ممن جرحتهم ولا تهتم بأحاسيسهم ولا تبالى بمشاعرهم، فاعلم أنك فاقد بعض الأدب والأخلاق والاحترام.»؛ كما قيل: «إذا سقط الاحترام سقط معه كل شىء». فأى عَلاقة إنسانية دون احترام هى عَلاقة غير سوية: فالمحبة بلا احترام بعيدة كل البعد عن معنى المحبة، وصداقة بغير احترام فقدت معنى الصداقة، حتى القرابة التى لا تحمل احترامًا تخرج عن إنسانيتها ولا معنى لها.
والاحترام دليل على الإيمان وحسن الخلق والأدب؛ وهذا ما عبّرت عنه الأديان وحثت عليه، فـ«المَسيحية» تأمر بتمسك الإنسان بالأدب: «تَمَسَّكْ بِالْأَدَبِ، لاَ تَرْخِهِ، اِحْفَظْهُ فَإِنَّهُ هُوَ حَيَاتُكَ.»، وبأن يرغب فيه من عمق قلبه: «وَجِّهْ قَلْبَكَ إِلَى الْأَدَبِ، وَأُذُنَيْكَ إِلَى كَلِمَاتِ الْمَعْرِفَةِ.»، وبالسعى نحو اقتنائه: «اِقْتَنِ الْحَقَّ وَلاَ تَبِعْهُ، وَالْحِكْمَةَ وَالْأَدَبَ وَالْفَهْمَ.»، وقد قال السيد المسيح عن عقوبة عدم احترام الآخرين: «وَمَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ.».
و«الإسلام» ينبه إلى أثر فظاظة القلب ويطلب البعد عنها: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ﴾، ويحض على الكلام الطيب والأسلوب الليّن فى المحادثات والمعاملات: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، ويلفت إلى أن من الإيمان مخاطبة الشخص بالأسلوب الذى يحب أن يخاطَب هو به، ففى الحديث: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، وإن من علامات التَّحابّ والاحترام إفشاء السلام بين البشر: «أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ»، وهكذا نجد ارتباطًا كبيرًا بين السلام واحترام الآخرين.
ويخطئ بعض الناس حين يظنون أن الاحترام علامة ضعف أو احتياج!!. والحقيقة أن قدرة الإنسان على معاملة الناس باحترام تؤكد حقيقة إنسانيته وتظهر أنه ذو مبادئ وخلق. وصدقت العبارة التى تقول: «الاحترام هو أجمل أثر يتركه الإنسان فى قلوب الآخرين». أتذكر كلمات مثلث الرحمات «البابا شنودة الثالث»: «احترمْ غيرك، يحترمْك غيرك. احترمْ غيرك، احترامًا لإنسانيته، أيًّا كان سِنّه، وأيًّا كان مركزه ووضعه فى المجتمع؛ فهو مثلك: إنسان... احترامك للناس يكسبك محبتهم، ولا يفقدك مهابتك.».
إن الاحترام من الأخلاق الأساسية للإنسان، وعلامة رفعته، وأهم ما يميزه عن غيره من المخلوقات الأخرى. والاحترام تجاه كل إنسان؛ فلا يقتصر على بعض الأشخاص فى المجتمع دون غيرهم، وأن يكون بين فئات المجتمع كافة، بعضها نحو بعض بتقدير وإجلال. ومن أجل التعايش باحترام يجب تأكيد مفهوم الأمة الواحدة، ومعانى الإنسانية، ومعنى الحرية الصحيح. و... والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم