حسام بدراوي
واجهنى الشاب السياسى قائلاً: تصور يا دكتور أن صديقًا لى من أيام الجامعة قُبض عليه فى قضية إرهاب، ولم يكن يظهر عليه أيام الدراسة مظاهر عنف ولا تطرف. ما الذى يجعل شبابًا مثلنا متطرفين فكرًا وأسلوبًا وينقلب حالهم بهذا الشكل؟
قلت: لايزال هناك الكثير لنتعلمه عن التطرف يا بنى، حيث لم أَرَ بحوثًا كافية تُلقى الضوء على المسارات النفسية المختلفة التى يمكن أن تقود الناس إلى تبنى العمل الدينى أو السياسى المتطرف.
حتى بعد ثورة ٢٠١١، لم أَرَ بحوثًا عن نوعية الشباب الذين كانوا فى التحرير فى الأيام الأولى وعلاقتهم بهؤلاء الذين تواجدوا فى الأيام الأخيرة.. لم أَرَ تحليلًا للهتافات وأوقات بثها، ولا لنوعية الشباب الموجودة ولا درجة تعليمهم.
نحن للأسف نفتقر إلى المنهج العلمى الذى يعتمد على البحوث الاجتماعية لمعرفة أصول التطرف وننساق وراء آراء قد تكون مهمة ولكنها قد لا تعكس إحصائيًا حقيقة علمية نابعة من بحوث واسعة النطاق عبر عدد من السنوات.
إننى أعتقد أن الذين يجدون صعوبة فى التكيف مع المتطلبات أو الظروف الفكرية الجديدة والمتغيرة، يميلون إلى تبنى وجهات نظر أيديولوجية وعقائدية أكثر حدة حول السياسة والقومية والدين، ويتمتعون بعدم المرونة والاستعداد أكثر لتأييد العنف.
قالت زميلته: وما هى علاقة التطرف بحروب الجيلين الرابع والخامس، وكيف نواجه ذلك؟
قلت: حروب الجيلين الرابع والخامس ينتصر فيها من يمتلك أدوات التأثير، والقادر على امتلاك عقول ووجدان الآخرين. وهذه حروب داخلية وخارجية، ولابد لنا من المبادرات فى التعليم والثقافة والإعلام التى تنشر ثقافة الحداثة واستخدام المعرفة والبحث عن المصادر وعدم تصديق الشائعات والتريندات.
لقد أثبت العلم أن الانطباع الذى قد يخلقه الغير يصبح بعد زمن حقيقة لا تحتاج إلى برهان، بل يدافع عنه البعض ويثورون ويتقاتلون من أجله وهو مخلوق من مجموعات أو أجهزة استخبارات أو إعلام موجه له أهداف يحققها، وقد يقود أممًا إلى فشل وانهيار، وقد يقضى على الهوية ويشكك المجتمع فى تاريخه ويدفعه لرفض حاضره ويقتل الأمل فى مستقبله.
قال الشاب الأول: إذن أنت تقول إن خلق التطرف فى مصر وتغذيته هو نوع من أنواع حروب الجيل الرابع والخامس لتفتيت استقرار المجتمع.
قلت: نعم، فتحويل المجتمع المصرى من الحداثة إلى الرجعية، ومن المدنية إلى الدينية، وتغييب التأثير المصرى بقواه الناعمة والذكية على المنطقة هو فى صالح من يريد أن يهيمن على مقدرات الشرق الأوسط عسكريًا واقتصاديًا وثقافيًا.
قالت الشابة اللماحة: تقصد إسرائيل؟ وكيف تتم مواجهة ذلك؟
قلت: أولًا، إن المنافسين لمصر فى التأثير هم إسرائيل وإيران وتركيا. ثانيًا فإنه لا يقاوم الفكر إلا الفكر، وهى مهمة المثقفين وقادة المجتمع. وبكل أسف فإنه عبر العقود السابقة كانت هذه المعركة هى مهمة أجهزة الأمن فقط ليس لتكاسل المجتمع المدنى ولكن أيضًا لأن هذه الأجهزة لا تثق فيه ولا تسمح له بالتدخل فيما تظنه عملًا أمنيًا فقط. المعركة بلا مواربة كانت فى غير صالح المجتمع مما أدى إلى تغول الفكر الدينى المتطرف، ووصل الإخوان المسلمون إلى اختطاف ثورة الشباب فى يناير ٢٠١١، بل وإلى حكم البلاد رئيسًا ومؤسسات تشريعية، وتشعب الفكر السلفى فى وجدان المواطنين ليصبح محركًا رئيسيًا لكثير من قادة المجتمع وأساتذته ومدرسيه مما يهدد بانتشار أوسع فى السنين القادمة عكس ما نتمناه من حداثة وتقدم وتنوير.
قال الشاب: ولكننا تخلصنا من حكم الإخوان!
قلت: إن صحوة الشعب المصرى فى ٣٠ يونيو خَلَّصت المجتمع من إرهاب الإخوان وقيادتهم وتلوينهم للمجتمع بالتعصب ورفض كل اختلاف وانتهاك لحقوق المواطنة، إلا أن المنطقة كلها مازالت حتى الآن تعانى منهم وأمثالهم، وللأسف فإن وقود التطرف والإرهاب أغلبه من الشباب، وكثير منهم من المتعلمين وخريجى أرقى الكليات.
صحيح حركة الشعب المصرى تخلصت من حكم الإخوان لأنهم طمعوا فى الحكم، أما الفكر السلفى المحافظ الرجعى الذى تسلل فى وجدان المجتمع فلم يختفِ بل أراه يزداد انتشارًا، ويظهر جليًا فى ردود فعل السوشيال ميديا على خصوصيات أفراد المجتمع بل وتدخّل أجهزة الدولة الرسمية لصورة تُنشر بدون إذن أصحابها هنا أو احتفال خاص هناك، وفى القبض على ذوى الرأى المخالف للأعراف السلفية الدينية والهجوم على الفن والفنانين فى البرلمان. بل إن دار الإفتاء الرسمية أصدرت فتوى عن ملابس النساء فى مصر وماذا تكشف وماذا تخفى فى سابقة لم تحدث من قبل. لقد بدأت أشك فى أن جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التى تختفى من الشارع السعودى بدأت تظهر فى مصر، وكما قال لى يومًا فى موقف مشابه حول الشيوعية، الأستاذ محمود السعدنى، رحمة الله عليه: «المصنع بيقفل هناك والوكيل بيشتغل أكتر فى مصر»، وهو ما ينطبق بشكل ما على الانتشار السلفى للأفكار.
قالت الشابة الغاضبة: بصراحة يا دكتور جيلكم ومَنْ قبلكم هم السبب فيما نحن فيه، بتخاذلكم أمام تيار الرجعية وأنتم المثقفون والمتعلمون.
قلت: معك حق يا ابنتى، فلا يوجد لتيار الحداثة والتنوير وجود مستدام. وفى كل تغيير لنظام حكم شكلى، يظهر تيار الرجعية ويزداد قوة.
إن الذى يستطيع حماية الهوية المصرية والوطن هم شبابنا المتواجدون فى فصولنا الدراسية لمدة ١٨ سنة متتالية. كيف يصل إليهم مخططو حروب الجيلين الرابع والخامس، ويشككونهم فى تاريخهم ويسحبون الأمل من وجدانهم فيتحولون إلى الهدم وليس البناء. وهذا ما يجب أن نعمل عليه، ويشمله جهدنا فى تطوير مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة فى البلاد.
إن مواجهة ذلك ليس مسؤولية الجهات الأمنية والمخابراتية والرقابية، بل تقع المسؤولية بشكل أكبر على المجتمع المدنى ووزارات الإعلام والشباب والرياضة والثقافة والتعليم التى لا أراها تعمل بتناغم مؤثر فى بناء الشخصية الواعية.
قال شاب آخر: وما الذى يجعل للأخبار الكاذبة والشائعات كل هذا التأثير؟
قلت: إن أحد الأشياء التى تدفع انتشار الأخبار المزيفة، التى بتكرارها تصبح حقيقة، هو الكسل المعرفى واستسهال أن يرى الناس الواقع من خلال عدسة انتماءاتهم السياسية والدينية، وأن يكونوا متحمسين لرؤية الأخبار المزيفة على أنها حقيقية لأنها تتوافق مع ما يريدون أن تكون عليه، وهى أمور من الممكن تلافيها بالتعليم.
قالت نفس الشابة: ولماذا يزداد التطرف الدينى بالذات؟
قلت: إن الصراع الموجود فى العالم ليس بين الخير والشر بل هو دائمًا إيمان شخص ضد إيمان شخص آخر.. المطلقات هى أقصر الطرق التى تجعل الإنسان بلا بدائل، ويتحكم فيه من يدّعى الصلة بالله. عندها يتحول الدين إلى مشكلة بدلًا من هدفه الربانى الأساسى وهو المحبة والتعارف، لأننا نقلصه ليصبح فقط غيبيات وتعاليم رجال ومفسرين، وليس روحانيات وقيمًا متفقًا عليها بين كل الأديان.
قال الشاب: والحل؟
قلت: تعود بنا الأمور إلى التعليم، ونوعيته وأساليبه. يا شباب، المسألة ليست فى منهج يُدرس فقط ولا تابلت وتكنولوچيا ولكن فى معايشة داخل المؤسسة التعليمية تتأثر بالمدرس والأستاذ والمناخ الثقافى الذى يخلقونه.
الحلول متاحة، ولكنها يجب أن تستديم ولا تتغير بتغير الحكومات. إن تأثير التعليم طويل المدى وبطىء لأنه يحدث عبر أجيال. وإذا كانت هناك حروب من الجيلين الرابع والخامس تعطل شبابنا وتبنى أجيالاً مضطربة لا تثق فى نفسها، فلنبحث فى ساحة التعليم، فالمعركة الحقيقية هناك.
نقلا عن المصرى اليوم