بقلم- دكتور نجيب جبرائيل
منذ أيام طارت معظم القوى الوطنية الليبرالية فرحًا، ومنهم الفصيل القبطي بطبيعة الحال، حين أعلن فضيلة الدكتور "أحمد الطيب"- شيخ الأزهر- إصراره على عدم قبول أي تغيير على المادة الثانية، ووضعها كما كانت عليه في دستور 71، رغم اعتراض كافة التيارات الدينية الإسلامية. ولقد جاء إصرار شيخ الأزهر إعمالًا لوثيقة الأزهر التي رسمت معايير اختيار الجمعية التأسيسية لوضع دستور البلاد، والتي تضمنت وبحق أن يكون هناك تمثيلًا كاملًا لكافة طوائف الشعب. ولقد تضمنت تلك الوثيقة أيضًا ما اعتيد أن تتضمنه دساتير مصر في العهود السابقة من أن "مصر" دولة إسلامية، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، مع النص وبوضوح على أن "مصر" دولة مدنية قوامها الديمقراطية والمواطنة.
ولقد اعتبر الأقباط أن في إضافة فقرة إلى المادة الثانية مفادها ترك غير المسلمين للاحتكام إلى شرائعهم في الأحوال الشخصية، أن ذلك حدثًا جوهريًا حقق غاية مطالبهم، ولا يريدون شيئًا أكثر من ذلك. ولكن قبل أن أبدأ موضوعي، ربما يثور التساؤل: ما هو الجديد في هذا الشأن؟ وهل إضافة هذه الفقرة بترك المسيحيين يطبقون شريعتهم في أحوالهم الشخصية، هل هذا نص مستحدث يكفي للقضاء عما كان يلاقونه الأقباط من تعسف وإقصاء شديدين عن التمتع بحرياتهم؟ وهل كان الدستور السابق أكثر ظلمًا لهم؟..
إن المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، كما فسرتها أحكام المحكمة الدستورية العليا، المبادئ قطعية الثبوت والدلالة والمجمع عليها، والتي لا خلاف عليها مثل قتل المرتد إعمالًا للحديث محل الاجماع "من بدل دينه فاقتلوه"، وأن من بين هذه المبادئ أيضًا القطعية أنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم، وأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، وأن الصغير يجب أن يتبع خير الأبوين دينًا حتى لو كان في حضانة أمه المسيحية وولد من أب مسيحي ثم أشهر الأخير إسلامه والصغير مازال في سن الحضانة، وأنه لا يجوز لغير المسلم أن يطلع على عورة المسلمة.. تلك هي جزء من الكل فسرتها المحكمة الدستورية العليا، والتي تندرج تحت مبادئ الشريعة الإسلامية كمبدأ رئيسي للتشريع.
وفي إطار آخر، طبقًا للفقه الدستوري والسياسي، أن مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع تمثل النظام العام في الدولة، وذلك يعني كما جاء بشرح هيئة مفوضي الدولة في المحكمة الإدارية العليا، أنه لا يمكن أن يصدر قانون يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، وهو ما عبرت عنه الأنظمة الحاكمة في "مصر" على مر العصور بأن الشريعة الإسلامية هي خط أحمر لا يمكن تجاوزه. وطبعًا كل هذه المفاهيم لها كل الاحترام، لكن في ذات الوقت، هل تستقيم مع مفهوم الدولة المدنية، التي قوامها الديمقراطية والمواطنة وحرية العقيدة والمساواة، مع وجود نصوص قانونية أو على الأقل مع اعتبار أنه لا يمكن سن قوانين تحقق المواطنة أو حرية العقيدة إذا كانت تتعارض مع هذا الخط الأحمر؟.
وللتبسيط حتى يسهل على القارئ، نضرب بعض الأمثلة:
1- هل في ظل المادة الثانية، وفي ظل النص في الدستور على حرية العقيدة والمواطنة وعدم التمييز بسبب الجنس أو اللغة أو العرق أو اللون أو الدين، هل يسمح برغبة شخص من التحول من الإسلام إلى أي دين آخر في ظل المادة الثانية من الدستور؟.. أعتقد أن الممارسات القضائية طوال أربعة عقود من الزمان رفضت هذا النوع من حرية العقيدة (قضيتي محمد حجازي- وماهر الجوهري".
2- هل في ظل هذه الوثيقة يُسمح ببناء أماكن عبادة للبهائيين؟.
3- هل يُسمح بأن يصدر قانون يحق فيه للمسيحي أن يتبنى طفلًا مسيحيًا في ظل سماح الديانة المسيحية بالتبني بين أتباعها، أم يضعونه في السجون مثلما حدث منذ ثلاثة أعوام حينما سُجن 17 مصريًا وأمريكيا؟.
4- هل يُسمح للصغير حتى ولو لم يبلغ سن الحضانة "15 سنة" أن يبقى مع أمه المسيحية في حالة إشهار إسلام أبيه على أساس تطبيق القاعدة الشرعية "إن الصغير يجب أن يتبع خير الأبوين دينًا"، فيُنزع من حضانة أمه المسيحية ليتربى مع زوجة أبية المسلمة، وكما سطرت أحكام المحاكم ما يعاقب عليه القانون مزدرية بالديانة المسيحية على مقولة "أنه يجب أن يسلم الصغير إلى أبيه الذي أسلم خشية أن يألف غير الإسلام دينًا، ويتردد على دور البيع والكنائس ويأكل ويشرب ما حرم الله!. (قضية ماريو وأندور وابنة شاهيناز ثابت".
5- هل يُسمح فى ظل المادة الثانية أن يشغل القبطي منصب أستاذ لأمراض النساء في أي جامعة من الجامعات؟ بطبيعة الحال الإجابة: إعمالًا للقاعدة الشرعية بأنه لا يجوز لغير المسلم أن يطلع على عورة النساء.
6- هل تُقبل شهادة غير المسلم على المسلم أو مع المسلم في قضايا الأحوال الشخصية، خاصةً التي يكون أطرفها زوجة مسيحة وزوجها المسلم؟.
7- هل تقبل المحاكم أن تحكم في توزيع المواريث لدى المسيحيين بأن يُقسم الميراث بالمناصفة إذا ما رضي المسيحيون بذلك.
8- هل تقبل الحكومة أن يكون رئيس مجلس القضاء الأعلى أو وزير الدفاع مسيحيًا إذا توافرت الشروط؟؟..
كل تلك أسئلة بطبيعة الحال يتعذر الإجابة عليها في ظل المادة الثانية. ونحن لا نعترض على المادة الثانية المتضمنة مبادئ الشرئيعة الإسلامية، وإنما اعتراضنا أنه لا يمكن أن نزج بالمبادئ الدينية في خضم الدساتير السياسية؛ لأن الدين هو موضوع شخصي يتعلق بالأشخاص ولا يتعلق بالدولة، وأن الدولة يجب أن تكون على خط متناصف ومتساو مع جميع المواطنين، حتى إن تعددت أديانهم ومعتقداتهم، وهذا هو النموذج التركي الذي يطبقه رئيس الوزراء التركي المسلم "رجب طيب أردوغان"، رغم أن "تركيا" يمثل المسلمون فيها أكثر من 99 %. لأن الدين هو قيم عليا أسمى بكثير من أن يُستغل بواسطة الحكام، فلقد رأينا كيف اُستغل الدين، وكم كانت مساوئ هذا الاستغلال عندما أعلن الرئيس الراحل "أنور السادات" أنه رئيس مسلم لدولة مسلمة، وكيف انعكس ذلك على تغيير الثقافة المتسامحة للشعب المصري إلى ثقافة التشدد التي لا تقبل الآخر، ثقافة الاستعلاء بالدين..
إن الدستور هو وثيقة العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، ولا يمكن أن يكون إلا بالتوافق على كل ما جاء به، ولا يمكن أن تُفرض نصوص دينية لطائفة معينة، حتى ولو كانت الأغلبية، طالما تتعارض مع الحقوق الأساسية للأقلية، إذ أن تلك الحقوق لا يمكن أن تكون محل تصويت أو استفتاء، فهي حقوق عامة وعالمية تتعلق بالكرامة الإنسانية.
ومن ثم، كنا نود أن تكون المصادر الرئيسة للتشريع في البلاد مستندة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي وقعت عليه كافة الدول في العاشر من ديسمبر 1948، وأن تكون الأديان هي مصادر قيمية وليست أحكامًا، فمثلًا: لا اختلاف على عدم قبول الزواج المثلي في مصر، أو عبدة النار أو الشيطان، إذ أن تلك جميعها تتعارض مع القيم الدينية، ومن ثم نرى أن يُعاد النظر في تلك الوثيقة، ليس اعتراضًا على الشريعة الإسلامية، وإنما لأن دستور الدولة المدنية يجب أن يخلو من أي نصوص دينية.
فلا تفرحوا يا قبط مصر، ولا يغرنكم إضافة فقرة جديدة للمادة الثانية، فالوضع كما هو، وما كان يُمارس ضدكم بسبب هذه المادة واستغلالها سوف يستمر، ولست متشائمًا بطبعي وإنما هذا ما ذاقت منه يداي.