بقلم- مينا بباوي
تعمدت أن أستخدم مصطلح "التيار اللا ديني" لأنه في الحقيقة تيار لا يتفق إلا على أنه رافض للتيارات الإسلامية من إخوان وسلفيين وأطياف الإسلام السياسي. وفيما عدا ذلك، فهو لا يتفق على العلمانية كمبدأ ولا كمفهوم، كما أن تسميته بـ"التيار المدني" فيه تشويه لمعنى "الدولة المدنية" كمصطلح سياسي يعني الدولة اللا عسكرية أو للا بوليسية، أي دولة المجتمع المدني من غير المنتمين للمؤسسات الأمنية بأنواعها لاسيما العسكرية.
إن مقالتي هذه بمثابة نبوءة أتمنى ألا تتحقق، ولو أني أعتقد في حتمية تحققها إلى حد يقارب اليقين. واختصارًا على القارئ الذي قد يضيق ذرعًا بقراءتها لآخرها، فإني أعتقد في أن هذا التيار اللا ديني قد حكم على نفسه بهزيمة سياسية نكراء وانتصار آجل أو عاجل للتيار الإسلامي، لسبب رئيسي وهو أنه لم يفهم ولم يدرك- أو ربما تجاهل- البعد "الأدبي" للمعارك السياسية، وتصور مخطئًا أن بإمكانه أن يخوض معركته بمنطق الغاية تبرر الوسيلة، ثم يربحها في النهاية.
الحقيقة أنه في ذلك قد أساء قراءة معطيات كثيرة من الواقع السياسي الداخلي والخارجي جعلته يتصور أن مازال بإمكانه أن يكسب المعركة بالضربة القاضية، مراهنًا على ميزان القوة العسكرية في مواجهة القوة الشعبية، وصوت الرصاص في مواجهة صوت الهتاف.
ودعوني أعرض نظريتي- أو نبوءتي- بقراءة عملية لمعطيات إحدى المعارك السياسية الساخنة التي يخوضها ضد التيار الإسلامي، ألا وهي معركة حل البرلمان. فهي معركة أظنها تحمل في فصولها وأبعادها ودلالاتها كثيرًا مما يجعلني أخلص إلى نبوءتي التي كلفتني كتابة هذا المقال الثقيل على نفسي وقلمي معًا.
يقول الإخوان وأنصار "التحرير" أن برلمان الثورة يجب أن يعود حتى ولو شاب قانون الانتخابات عوار دستوري أبطل بعض نصوصه التي تتعلق بآلية الترشح وتوزيع المقاعد، غير أن هذا الموقف، وإن بدا للوهلة الأولى صادمًا وعبثيًا من الناحية القانونية، إلا أنه وللمفارقة ليس كذلك من الناحية السياسية و"الأدبية"، بل وقد يبدو عكسه صادمًا وعبثيًا أكثر بكثير. لا تندهش قارئي العزيز، فأنا أقصد ما أقول ولست ساخرًا أو مستهزئًا.
وطلبًا للموضوعية في قراءة وتحليل أبعاد هذه المعركة، دعونا نفترض مجازًا أن الأغلبية التي استحوذت على البرلمان لم تكن تنتمي للتيار الإسلامي، أو أن التيارين قد تقاسما البرلمان مناصفة. تأسيسًا على هذه الفرضية، دعونا نتوقف عند عدد من الحقائق التي أحسبها مهمة في تقييم مواقف الأطراف ومعطيات المعركة.
الحقيقة الأولى، هي أن أعضاء البرلمان، وإن شابت نسب ترشحهم ما بين الأحزاب والمستقلين مخالفة لنص الإعلان الدستوري، إلا أنهم في مبدأ الأمر ومنتهاه أعضاء منتخبون من خلال انتخابات ديمقراطية حرة نزيهة- لو سلمنا بنزاهتها مجازًا-. وبالتالي، وبصرف النظر عما يكون قد لحق ببعض المرشحين من إجحاف أو من إهدار لفرصتهم الانتخابية نتيجة منافسة مرشحي الأحزاب على المقاعد المخصصة لهم، إلا أن تشكيل البرلمان نفسه لا يشوبه عوار من الناحية الديمقراطية للكلمة، ويظل ممثلًا للشرعية الديمقراطية. فالمتضرر هنا بالدرجة الأولى ليست نزاهة الانتخابات أو شرعية فوز من فازوا بها (وبالتالي ديمقراطية وشرعية تشكيل البرلمان وتمثيله للقاعدة الشعبية) بقدر ما هم المرشحين أنفسهم- ومؤيديهم بالطبع- الذين أهدر قانون الانتخابات المعيب بعض من فرصتهم في دخول البرلمان. ومع ذلك، ففرصتهم هذه تظل في أكثر الحالات افتراضية، حيث أن أغلبهم لم يكن لديه فرصة جدية في الفوز حتى ولو لم ينافسه على المقعد إلا مستقلون.
أضف إلى ذلك، أنه ليس هناك ما يمنع أن يؤيد حزب مرشح مستقل، وبالتالي فتأييد الحرية والعدالة مثلًا لمرشح مستقل بعينه كان سيضمن له الفوز في أغلب الأحوال حتى ولو لم يترشح رسميًا بصفته الحزبية. وكنا سوف ننتهي إلى تشكيل مشابه إلى حد كبير لتشكيل البرلمان الحالي، ولربما زادت الأحزاب الإسلامية من كيدها للتيارات الأخرى بأن انضم المستقلون المحسوبون على الحرية والعدالة إلى الحزب بعد تشكيل البرلمان كما كان يحدث أيام الحزب الوطني، وهو ما لم يكن ليطعن بأي حال على سلامة عضويتهم في البرلمان، أو على سلامة تشكيل البرلمان نفسه.
الحقيقة الثانية، أن الظرف السياسي الاستثنائي الذي تمر به البلاد، يبيح الإبقاء على البرلمان حتى ولو شابه هذا العوار القانوني الذي كما سبق وأفضت، أهدر فرصة بعض المرشحين في الفوز ولكنه لم ينزع الشرعية عمن انتخبوا ديمقراطيًا ليمثلوا الإرادة الشعبية التي تشكل البرلمان.
فلا أحد، ولا الإخوان أنفسهم، ينازع في ضرورة إعادة الانتخابات. فما يقوله الإخوان والتيار الديني هو أنه من الأفضل إرجائها لأشهر قليلة ريثما تستقر مؤسسات الدولة وينتقل الحكم بشكل ديمقراطي، وهو ما لا يحتمل حدوث فراغ تشريعي بغياب البرلمان، لاسيما إذا كان ذلك لاعتبارات شكلية وليست جوهرية في طريقة تشكيل البرلمان لا تفقده شرعيته. وإذا كان الترف القانوني والسياسي في الأحوال العادية والأوضاع المستقرة للدول والمؤسسات يسمح بأن تُعاد الانتخابات بشكل فوري انتصارًا لنص القانون (أو الدستور) لا لعوار جوهري في طريقة تشكيل المؤسسة التشريعية، فإن الوضع الاستثنائي والخطير الذي تمر به البلاد لا يسمح بمثل هذا البذخ السياسي والاقتصادي معًا، وبالتالي فالحكمة والمسئولية السياسية تقتضي تأجيل حل البرلمان إلى ما بعد صياغة الدستور.
الحقيقة الثالثة، أن التيار اللا ديني الرافض بشدة لاستمرار البرلمان وينادي بضرورة احترام أحكام القضاء وإعادة الانتخابات برمتها، أيًا كان الضرر السياسي والمؤسسي والاقتصادي الذي سوف يقع من غياب المؤسسة التشريعية المنتخبة، يتخذ في الحقيقة موقفًا ملتويًا ويكيل بمكيالين. فلو أن هذا البرلمان نفسه كان قد أتى بأغلبية ليبرالية/مدنية (مع التحفظ على دقة المصطلحات التي تم تحميلها معانٍ لا تحملها، ولكن لذلك مقال آخر)، لما رأى غضاضة في الإبقاء عليه بشكل مؤقت حرصًا على استقرار المؤسسة التشريعية، لا سيما الجمعية التأسيسية التي تنبثق عنها لصياغة الدستور، ولغلب التيار المدني في تلك الحالة اعتبارات المصلحة السياسية العليا للبلاد على أية اعتبارات أخرى. وظني أن ذلك كان سيكون موقفه حتمًا لو أن "شفيق" كان قد فاز في الانتخابات وقرر الإبقاء على البرلمان مؤقتًا، رغم حكم المحكمة الدستورية العليا، بل وأذهب أبعد من ذلك لأقول لو أن "شفيق" في حالة فوزه قد اتخذ قرارًا بالإبقاء على البرلمان بأغلبيته الإسلامية لأي سبب أو اعتبار سياسي أو غيره لاسيما الضغوط الأمريكية، لسكت التيار اللا ديني، ولما تمسك بنفس الحنبلية باحترام القضاء والقانون والدستور والمؤسسات... إلخ.
الحقيقة الرابعة، أن التيار اللا ديني الذي يلوح برايات احترام استقلال القضاء والدستور والمؤسسات، ليس بالضرورة حريصًا على أي مما يتشدق به، وليس أدل على ذلك من تأييده لتصريحات "الزند" و"تهاني الجبالي"، والتي تخالف التزامهما القانوني كقضاة يمتنع عليهما الإدلاء بتصريحات سياسية، فما بالك وهي تصريحات بعضها يعاقب عليه القانون (مثل تصريح الزند مثلًا بأن القضاة لن يطبقوا القوانين التي سيصدرها البرلمان!!!)، وفي أي دولة من الدول الغربية حيث سيادة القانون واستقلال القضاء، كان أي منهما سيعزل من القضاء فورًا وحتمًا لو أنه أدلى بنصف ما أدلى به من تصريحات.
إن الحقائق الأربعة التي عرضتها بإيجاز، وحرصت ألا أسهب في عرضها بالرد على حجج فرضية ظني أن جميعها مردود عليها، هي في الحقيقة تجسد ما قصدته من تجاهل التيار اللاديني للبعد "الأدبي" لمعاركه.
فالمعارك السياسية ليست معارك قانونية بحتة كما يظن التيار اللا ديني حين يحتكم للمحكمة الدستورية العليا ويتشدق بالدستور والقانون واستقلال القضاء- مع أنه في الحقيقة آخر من يحرص عليهم كما سوف أعرض فيما بعد-. المعارك السياسية هي بالدرجة الأولى معارك "أدبية". فعلى عكس المعارك القضائية، القانون ليس له نفس قدسية المقاصد والغايات، لاسيما في ظرف سياسي وتاريخي ودولي مثل الذي تمر به "مصر"- وهو ما سوف أستفيض فيه في نهاية المقال-. وبالتالي، مخطئ الطرف الذي يتصور أنه إذا ما لوح براية القانون أو أحكام القضاء يكون قد حسم المعركة "أدبيًا" لصالحه بشرعية "العدالة"، ويكون بذلك قد ضمن الانتصار.
فبينما يحارب التيار الإسلامي- بصرف النظر عن حقيقة نواياه أو مشروعه السياسي- معركته على أرضية "الديمقراطية"، و"الإرادة الشعبية"، و"استبداد العسكر"، و"محاولة النظام البائد إجهاض الثورة"، و"فساد مؤسسات الدولة وبقايا النظام بما في ذلك القضاء"، ...الخ، يتجاهل التيار اللا ديني في معركته أية اعتبارات أدبية ويتحالف ويستغل أية مواقف أو معطيات يراها تخدم أهدافه على طريقة "الغاية تبرر الوسيلة".
فالتيار اللا ديني لا يمانع في انقلاب المجلس العسكري والاستيلاء على الحكم كي ما يمنع وصول التيار الإسلامي واستفراده بمؤسسات الدولة- وهو موقف تبرره مخاوف مشروعة وأغلبها صحيح وغير مبالغ فيه-. كما أنه ليس عنده مانع في أن يؤيد على طول الخط المجلس العسكري رغم ما يعلمه عنه في قرارة ضميره من فساد بيِّن ليس أقله أن أعضائه هم بالتعريف من بقايا نظام "مبارك" الذي لا أظن "مبارك" نفسه يجادل في أنه كان نظامًا فاسدًا بكل رموزه، وإن اختلفت أشكال الفساد ودرجاته.
ولا يرى التيار اللا ديني غضاضة في أن يخرج قضاة مثل "الزند" و"الجبالي" عن أبجديات استقلالهم وقوانين مهنة القضاء نفسها بأن يتخذوا مواقف سياسية تمس صميم حيادهم ونزاهة مجلس قضائهم إن هم تعرضوا في أحكامهم لقضايا أطرافها أو موضوعها يتصل بمواقفهم السياسية!.
ولا يرى غضاضة في أن يصدر المجلس العسكري إعلانًا دستوريًا مكملًا يقوم فيه بتعديل التعديلات التي لم يكن له في الأساس أن يدخلها على دستور 71 دون أن يجري عليها استفتاء، بل وليس من حق البرلمان نفسه في كامل هيئته وتشكيله أن يعدل حرفًا منها أو من الدستور بعد كتابته دون أن يعرضها على الشعب للاستفتاء عليها.
وهو يلوم على "محمد مرسي" إصدار قرار جمهوري بإلغاء قرار المجلس العسكري بحل مجلس الشعب، بينما قانونًا هذا القرار من ضمن صلاحياته وليس فيه مساس بحكم المحكمة الدستورية نفسه، وإنما يدخل في إطار الجدل القانوني حول ما إذا كان حكمها يترتب عليه حتمًا حل مجلس الشعب من تاريخ صدوره، أم أنه يبطل النص غير الدستوري ويترك للسلطة التنفيذية اتخاذ قرار الحل (وهو جدل قانوني فني بحت لا أظننا بمجال هنا للخوض فيه ناهيك عن حسمه).
لا يسعني المقال لسرد قائمة طويلة من مواقف كلها تعبر في مسلكها وطريقتها عن أن التيار اللا ديني يخوض معركته بمنطق الغاية تبرر الوسيلة، وسوف أكتفي بملاحظة لفتت انتباهي في الأيام الأخيرة من متابعتي للتعليقات على "فيسبوك". فأنصار التيار اللا ديني لا يتورعوا بمناسبة وبغير مناسبة عن نقد "محمد مرسي" على أي شيئ وكل شيئ بشكل بدأ يبدو طريفًا ومضحكًا بالنسبة لي! فتجدهم ينتقدوه مثلًا على قطع التيار الكهربائي، بينما الرجل لم يمض شهر على وصوله للحكم، ولم يشكل الوزارة بعد، وبينما المشكلة تعود إلى أكثر من عامين، وليس بإمكان أي حكومة حلها في يوم وليلة إذا كان وزير الكهرباء الفاشل الباقي في الوزارة من أيام "نظيف" قد عجز عن حلها في أكثر من سنتين!! ناهيك عن أن "شفيق" لو كان قد وصل للحكم لانبروا في الدفاع عنه والتماس الأعذار له والهجوم على التيار الديني أو على أنصار التحرير لو أنهم حملوه في يوم وليلة مسئولية مشكلة بهذا التعقيد وهذا التراكم!! أو حين يسخر بصبيانية وسخافة منقطعة النظير من مجموع ابن "محمد مرسي" في الثانوية العامة، وكأن من يسخر كان الأول على الجمهورية في الثانوية العامة، وكأن معيار شرعية الرئيس تفوق أبنائه في الثانوية العامة!!! هذه كلها أمثلة لحالة بدأت تشبه الهيستيريا أصابت التيار اللا ديني في هجومه على التيار الإسلامي، فبدأ يتصيد ويتصرف بسخافة وصبيانية عكاشية (نسبة إلى توفيق عكاشة) تدعو للشفقة وتدل على تخبطه وانهياره..
إن هذا الكيل بمكيالين، والتغاضي عن البعد الأدبي للمواقف والمعارك، من أبسطها إلى أعقدها، هو تحديدًا ما يجعلني أتنبأ بهزيمة ساحقة ومريرة للتيار المدني. والسبب في ذلك أوجزه في نقاط سريعة ولكنها رئيسية:
أولًا- نظرية "الضربة القاضية" وتفوق القوة العسكرية التي يبدو أن أنصار التيار اللا ديني يراهنون عليها، لم يعد لها وجود في معطيات اللعبة السياسية على أرض الواقع اليوم. فالمجلس العسكري يفتقد ليس فقط للشرعية (فهو ليس منتخبًا ولم يأت به الشارع إلى الحكم، وإنما فرضه الرئيس مبارك عند التنحي وبالتالي فوجوده في الحكم أصلًا يفتقد لسند من شرعية دستورية أو قانونية أو حتى شعبية).
ثانيًا- قيادات المجلس العسكري تفتقد للكاريزما والقدرة على الحسم، وبالتالي ليس بإمكانها عمليًا خوض معركة أتاتوركية تفرض فيها سيطرتها وتطيح بكل القوى السياسية كما يتصور ويحلم البعض.
ثالثًا- المجلس العسكري ـ فضلًا عن أنه قد التزم صراحة وأكثر من مرة بتسليم السلطة بشكل يجعله لا يمكنه التراجع عن التزامه مهما تحايل وماطل بالقانون أو بغيره- قد ارتكب من الأخطاء- بل من الجرائم في بعض الأحيان- ما جعله يفقد أي أرضية شعبية أو حتى تعاطف واسع يجعله قادر على حسم المعركة لصالحه إن راودته فكرة الانقلاب.
رابعًا- أنصار التيار اللا ديني هم في أغلبهم شرائح "خاملة" سياسيًا، وغير فاعلة، وعاجزة عن الحشد والنزول للشارع وخوض المعركة السياسية على أرض الواقع (ولهذا أسباب يطول شرحها وتحليلها لا مجال لها هنا). وربما هذا هو في الحقيقة سبب رهانها بشكل أساسي على المجلس العسكري لخوض المعركة نيابة عنها. إلا أن الحقيقة التي أثبتتها أكثر من موقعة سياسية، هو أن المجلس العسكري لا يستطيع أن يراهن عليهم شعبيًا إذا ما احتدمت المعركة، بينما في المقابل خصومه قادرين على الحشد والتعبئة (المسلحة إن لزم الأمر) بشكل يجعله لا يستطيع أن يدخل في مواجهة صريحة مع التيار الديني أو مع أي قوى سياسية فاعلة بما في ذلك الفصائل اللا دينية مما يسمونه "الثورة"، لاسيما وهو يرى ما حدث في "ليبيا" وما يحدث في "سوريا".
خامسًا- أن المعركة لم تعد شأنًا داخليًا كما كان في السابق، وإنما تتدخل فيها- بل وتديرها- أطراف خارجية قوية ومؤثرة وعازمة على حسمها لصالح التيار الإسلامي. وبالتالي فإن نظرية "الضربة القاضية" لا محل لها من الإعراب، طالما أن هناك أطرافًا دولية سوف تتدخل للحيلولة دون ذلك، حتى ولو تطلب الأمر تكرار السيناريو الليبي والسوري، لاسيما وأن الحالة السورية أثبتت للجميع أن تفوق القوة العسكرية والدولة المسيطرة لا يضمنا حسم اللعبة لصالح القوة العسكرية، حتى في دولة مثل "سوريا" كانت تحكم بالحديد والنار، ولم تُخترق بالشكل الذي اُخترقت به "مصر" أمنيًا ومخابراتيًا وسياسيًا، فضلًا عن تفكك المجتمع المصري أصلًا، ووهن الدولة حتى من أيام "مبارك".
وعند هذه النقطة الأخيرة (الأطراف الدولية) سوف أتوقف وأختم هذا المقال. فلو كانت معركة التيار اللا ديني مع التيار الديني تدور كما في السابق بين ندين أو خصمين حتى ولو تفاوتا في ثقلهما السياسي، لربما نجح منطق "الغاية تبرر الوسيلة" في حسم المعركة لصالح التيار اللا ديني، لاسيما وأن وسيلته هي مؤسسة عسكرية مسلحة ومنظمة حكمت البلاد لأكثر من ستين عامًا ومتغلغلة في مفاصل الدولة والاقتصاد. إلا أن ما لم يدركه التيار اللا ديني إلى الآن هو أن المعركة تدور على شاشات تلفزيونات العالم وعلى صفحات جرائده، وعلى الإنترنت. إن المعركة معركة إعلامية بالدرجة الأولى وليست معركة سياسية أو عسكرية فقط. ولأنها كذلك، فإن بعدها "الأدبي" هو في الحقيقة أهم أبعادها وأكثرهم تأثيرًا في حسمها.
إن "مبارك" لم يرحل عن الحكم لأنه قد خسر المعركة بمعايير القوة. "مبارك" خسر المعركة "أدبيًا" قبل أي شيئ (لاحظ الدور الذي لعبته "موقعة الجمل" في التعجيل بسقوطه). ولو لم يدرك التيار اللا ديني هذه الحقيقة، فسوف ينتهي به الأمر مثل "مبارك": حبيسًا، مدانًا ومهانًا.
وللأسف، فقرائتي للمشهد تقول بأن التيار اللا ديني قد خسر بالفعل ومازال يتمادى في خسارة معركته أدبيًا، كما لو كان قد فقد السيطرة على نفسه وهو يندفع بأقصى سرعته على منحدر سوف ينتهي به حتمًا- في رأيي- إلى هزيمة نكراء لن تقم له منها قائمة إلا بعد عقود.
فهو حين تحالف مع المجلس العسكري، وبرر لقضاة مثل "الزند" و"الجبالي" تصريحاتهم، وتمسك بحل البرلمان فورًا أيًا كانت النتائج السياسية وأيًا كان ما سوف يرتضيه هو نفسه ويتمسك به لو أنه كان قد حصد الأغلبية، وحين بكي "عمر سليمان" نكاية في التيار الديني، وليكرر ضمنيًا أنه ينتظر من يخلصه من الإخوان والتيار الديني بأي شكل حتى ولو دموي، وحين يكيل بمكيالين في أغلب مواقفه السياسية من التيار الديني، ويبرر لنفسه ما ينهال بسببه بالهجوم على التيار الديني بمناسبة وبدون مناسبة.. إلخ، إنما لا يدرك أنه في الحقيقة يخدم التيار الديني خدمة تاريخية، ويبرر لأمريكا بإعلامها ونفوذها السياسي لأن تسوق للتيار الديني على أنه الفصيل الذي يراهن على "الديمقراطية" ويشكل المعارضة القوية لدولة الفساد وفلولها في كافة مؤسسات الدولة، بينما التيار اللا ديني هم في الحقيقة بقايا النظام الفاسد ومن والاه، متسترين ومتشدقين بشعارات "الدولة المدنية" و"استقلال القضاء" و"دولة القانون".
لقد أدار التيار اللا ديني معركته السياسية بغشومة شديدة، لأنه لم يفهم معطيات المعركة الحقيقية، ولأنه مازال لم يفهم أن الصفحة القديمة قد قلبت بلا رجعة، وأن عليه أن يتعامل مع معركة جديدة عليه بمعطيات مختلفة تمامًا عما اعتاد في السابق.