الأحد ١٢ اغسطس ٢٠١٢ -
٠٠:
١٢ ص +02:00 EET
بقلم: مدحت بشاي
medhatbe@gmail.com
منذ اختفى عسكري الدرك وصرخته الشهيرة " مين هناك ؟ " بدون سبب مُعلن سوى ما أشيع ولم نره على الأرض متحققاً من استبدال تلك الآلية المتخلفة كما قالوا بما أًطلق عليه الدوريات الراكبه ، نعم استوردت الداخلية في أول ولاية لوزيرها العادلي ( نزيل طره حالياً ) سيارات تم تسليمها لشباب يجوبون البلاد ، يفعلون أي شئ دون متابعة حال الأمن في الشارع ، وبات لدى المواطن إحساس أنها تمثل دوريات تجسس أحياناً على أحوال البلاد والعباد ، وأحياناً أخرى لزوم فسحة شباب عسكر الداخلية ، وقد شوهد بعضهم كثيراً وقد خرجوا برؤوسهم من نوافذ سياراتها لمعاكسة الفتيات !!
وبات الناس في بلادي يسألون " هوه مافيش عسكري ؟! " في إشارات المرور ، وفي المستشفيات والمدارس التي يخترفها بلطجية يهددون حالة أمن الطالب والمدرس والمريض والممرض والطبيب .. كانوا يسألون قبل ثورة يناير وارتفعت وتيرة صراخهم بعد الثورة و انسحاب الأمن في مفاجأة مرعبه أثناء اندلاع أحداثها ..
في زمن الطرابيش وعصر تألق سيدنا وتاج راسنا السيد أحمد عبد الجواد رمز الذكورة والفحولة الذي لم يعد له نظير على أرض الواقع ، والذي بقى فقط من تلك الأيام في الواقع الرجل الحنجرة المتراجع دائماً " هتنزل المرة دي" ..
ولأن الست الطيبة " عفيفة " كانت زوجة للرجل " هتنزل المرة دي " في زمن الأبيض وأسود فقد قامت بتجهيز زيارة لابنها الشاب الذي يدرس في القاهرة نظراً لطول غيابه ،وانشغاله في الدراسة وقررت أن تذهب إليه وحدها في مفاجأة تراها تسعده ، وهي تعرف أنه اشتاق لأن يأكل من صنع أيديها الحانية ، ولأنها لأول مرة تزور قاهرة المعز فقد توهتها الشوارع بعد خروجها من محطة مصر وأسلمتها قدماها إلى شارع شهير في تلك الفترة بأنه المركز الرئيسي لبيوت الدعارة التي يقف على أبوابها ويطللن من نوافذها بائعات الهوى شبه عرايا ، وهن نسوة مرخص لهن من قبل الجهات الرسمية في تلك الآونة بممارسة البغاء ..
وبمجرد رؤية الست عفيفة لهذا المشهد سقطت حمولة الزيارة من بين يديها وصرخت صرختها المدوية " هوه مافيش عسكري ؟! " وبقدر ارتفاع صرختها إلى عنان السماء كان تعالي ضحكات الناس في الشارع لسبب بسيط أن العسكر وحكومة هذا الزمان هم الذين رخصوا لهؤلاء النسوة بممارسة هذا العمل المشين الذي أذهلها رؤية مشهدهن بلا حياء ، ثم أدهشها أكثر تعايش الناس مع هذا المشهد ببلادة وبرود .
حكاية الست عفيفة وصرختها الشهيرة صارت نكتة تتناقلها الأجيال في بلدة هذه السيدة الطيبة التي هي بلدتنا فالحكاية واقعية ، وحتى الآن ورغم مرور أكثر من نصف قرن على حدوثها ، وذلك ليس لطرافتها فقط وتوفر الأسباب الفنية لصناعة دراما كوميدية ، إنما ما في هذه الحكاية من دلالات الضعف الإنساني الهائل الذي ينتاب الإنسان في مواقف ولحظات كثيرة تجعله يصرخ مستغيثاً بأي قوة تحميه من بطش أو فساد أو اعتداء على حريات فتكون المفاجأة عندما يجد أن الشر قد استوطن واستقر وأصبح من مفردات حياة الناس ولا يثير لديهم أي نوع من الاستهجان ، بل ومرخص به في بعض الأحيان من جهات حكومية تحميه وترعاه !!!..
لقد ظل الإنسان وبشكل خاص في المجتمعات النامية أمام أسئلة لا نهائية في علاقته بالواقع والسلطة والشارع والمجتمع ، وأرى أن الفارق بين الدول المتخلفة والمتقدمة أن المواطن في الحالة الثانية يجد الإجابة والاستجابة لأكبر قدر من تلك الأسئلة ، ولا تظل الأسئلة حائرة دون جواب شافٍ ومقنع مثلما يحدث في الحالة الأولى ..
لا أعرف لماذا تذكرت تلك الحكاية وأنا أتابع جنازة شهداء سينا وفي توديعهم رموز الإخوان ، ثم زيارة القيادات الإخوانية لمتابعة القوات المسلحة لتمشيط المنطقة وتأمينها ؟! .. لاتعليق !!
أخيراً أود الإشارة إلى أن العسكري الذي يجب أن تستدعيه ذاكرة المستغيث ليس دائماً رمز السلطة أو الرقابة أو التفتيش أو حتى أصحاب القرار فقط ، وإنما العسكري قد يكون في الكثير من الأحيان هو الضمير والقيم لدينا جميعا فكلنا يجب أن يستصرخ العسكري داخله ولا نحمل الحكومة والسلطات كل المسئولية لنستريح تلك الراحة المزيفة بمجرد إطلاق صيحة " هوه ما فيش عسكري؟!!"..