بقلم: المهندس نبيل المقدس
ليلة من ليالي أغسطس العجيب في درجة حرارته , سألتُ نفسى هامسا : "لِما لم يخطر علي بالي حتي مجرد التفكير في الزواج بعد رحيل شريكة حياتي منذ 13 عاما ؟.. لِما لم أتعطش حتي ولو مَرّتْ عليّ لحظة ضعف الوحدة المُوحشة أن أرتبط بإمرأة تروي عطش هذا الفراغ ؟ .. مبدأي هو أن الإنسان له رفيق واحد علي الأرض .. فأنا أميل إلي المثل الذي يقول " الإنسان فى حياته له فرصة إلتصاق بجسد الآخر مرة واحدة عليه أن يستثمرها " .. فلو فارق إحدي الزوجين الطرف الآخر فعلى هذا الطرف أن يستمر في حياته بدونه , وأن يُكمل المشوار طبقا للخطة التي وضعها مع شريكه الذي فارق الحياة للوصول إلي الهدف الذي حدداه معا .
تذكرتُ عندما كنتُ مُهندسا في المصانع الحربية كان من ضمن العاملين بالقطاع الذي تشرفتُ أن أقودُهُ عامل بسيط يادوب يفك الخط .. وكان يُعتبر "مَرْمَطُون" القطاع لأنه كان يُلبى إحضار طلبات زملائه من البوفيه .. لكن على قدر هذا الجهل كان قلبُهُ ينبض حبا وإخلاصا جعلاني أتخذَهُ رفيقا لي في العمل , فقد صممتُ أن أعَلِمَهُ مباديء تركيبات الكهربا , وفعلا بدأ يضع يديه مع أيادي زملائه .. لكن صمم " علي عبدالله " وهذا إسمه ان يظل مَرْمَطُونا لهم . سِرْ إعجابنا أنا والزملاء به ,أنه فقد زوجته أثناء الولادة الثالثة لها لكي تتركه وحيدا بثلاث بنات .. فإضطر " علي عبدالله " أن يأخذ بناته ويسكن مع والدته في طوخ , لكي تشرف علي تربية بناته في بيت معظمه مبني من الخوص وجريد النخيل .. وتحمّلَ مشقة السفر صباحا ومساءً من حلوان حتي طوخ , لكي يكون مع بناته فترة الليل .. حاولت أنا وزملاؤه أن يتزوج مرة أخري .. لكنه أصر علي الرفض , وكان رده دائما, أنه سوف يبقي مع بناته حتي يتخرجن من الجامعة لو أعطاه الله العمر.. وفعلا فقد حضرتُ حفل تخريج إبنته الكبري من كلية الآداب قسم تاريخ في قريته .. وحضرت ايضا تخريج إبنته الثانية من معهد التمريض العالي .. ثم تركتُ المصنع , وبعد إنقطاع عنهم مدة عشر سنوات قمتُ بزيارتهم بالمصنع , وأول شيء قمت به في الزيارة هو السؤال عن " علي عبدالله ".. وكم حزنت جدا أنه توفي فجأة بعد ما تزوجت كل من إبنتيه الأولي والثانية .. أما الإبنة الثالثة فقد ظلت تحت رعاية أختها الكبري .
أحببت أن أكتب لكم هذه التجربة فقط كنوع من المشاركة معي .. فبعد مرضي المفاجيء ظللت عند إبني الوحيد في منزله لمدة تقريبا 40 يوم .. وبعد ما إسترديت نصف عافيتي , رجعتُ إلي منزلي لكي أكمل إسترداد الباقي منها .. ولا أنكر عليكم .. كان يوم رجوعي إلي منزلي بداية ايام من أصعب أيام حياتي .. ولأول مرة أشعر بقسوة الوحدة .. وكان سبب هذا الشعور هو الملل نتيجة المكوث في البيت أغلب الوقت وأن لا اقوم بأي مجهود طبقا لنصيحة الدكتور المعالج لمدة شهرين وهذا لم أتعود عليهما طيلة سنوات عمري العملية .. لا التليفزيون , ولا الكمبيوتر , ولا حتي القراءة , ولا حديثي مع إبنتي المتغربة عني خارج البلاد بالساعات إستطاعت أن تُهدىء من روعة الوحدة .. فضعفي وهواني في هذه الفترة جعلاني أفكر ماذا أفعل لو جاءتنى ازمة صحية ما ..؟ بدأت أخاف من أن تأتي لي المنية وأبقي جثة هامدة في البيت لا من سائل ولا من أحد يحملها إلي المقر الأخير .. أخذت افكر لماذا بدأت أخاف من الوحدة في وقت قصير لا يتجاوز الشهرين .......؟؟!!
واضح أن ما وصلت إليه من حالة ظهرت للمقربين إليّ .. فقد إتصل بي صديق لي .. واحس بوحدتي , إتصل بي أخي .. وأحس بوحدتي , إتصلت أختي من المنيا .. وأحست بوحدتي , حتي جاري عندما طرق الباب .. أحس بوحدتي , بواب العمارة الذي كان يأتي لي بالطلبات .. أحس بوحدتي , حجرة مكتبي .. أحست بوحدتي , اللاب توب .. أحس بوحدتي , حتي صورة زوجتي في حجرة مكتبي .. أحست بوحدتي , كل هؤلاء مرة واحدة أحسوا بوحدتي ..!
والغريب أجد في نفس الوقت اصدقاء شباب و كبار , رجال ونساء يحسدوننى علي هذه الوحدة . تعجبتُ من هذا التباين .. جعلوني أعيش في صراع مستمر مع نفسى , هل أنا أصِبْتُ أم أخطأتُ ولم أتخذ إمرأة أخري زوجة لي بعد رحيل فتاتى وزهرة حياتي وشريكة العمر الغائبة , بالرغم أنني ما زلتُ أشعر أنها مستمرة معي في بناء حياتنا التي خططنا لها منذ السنة الأولي في كلية الهندسة ؟!... هل كان المفروض علينا أن نخطط لحياة محدودة بحيث لو غاب أحد فينا أو رحل , يستطيع الآخر أن يخطط حياة أخري جديدة مع شريك جديد آخـــر ..!!؟ أسئلة كثيرة دارت في عقلي وكادت أن تفتك بي , وكادت تهدم كل الذكريات الجميلة التي عشتها مع شريكتي الغائبة ... لكن ما يزال الإنسان ضعيف يضطر أن يترك مبادئه وراء ظهره أو يلقي بما آمن به جانبا ولو للحظة مقابل الشعور بأنه ليس وحيدا في هذه الحياة ... !!
وفي لحظة الضعف التي كنت أخافها أن تأتيني في يوم من الأيام ,اتصلتُ بصديقي هذا ويادوب هتكلم معه في الموضوع بطريقة غير مباشرة , إذ يعرض علي "فلانة وعلانة" ... مافيش يوم واحد مر , و أجد مكالمة من أختي التي تعيش في المنيا تعرض هي ايضا "شلانة وهلانة" .. وإنتشر الخبر في ربوع الوادي .. لم أستطع الملاحقة علي التليفونات .. بدأ منزلي يمتلئ بالأصدقاء والأقرباء وبموفقي الرؤوس في الحلال .. صدقوني إلي الآن لم أعرف وسيلة الميديا التي تم إستخدامها في ترويج هذا الموضوع " البحث عن عروسة " .. من هو هذا الإعلامي الفنان الذي إستطاع أن يحيطني بأخبار سيدات المجتمع القريبات منهن والبعيدات .. وجدت نفسي فجأة " متصابي على رأي واحد صاحبنا " و أنني رجعت للوراء حوالي 40 سنة شباب .. شعرتُ برجولتي لكنها الرجولة الهشة .. أحسست أنني ما زلت مرغوبا , لكنها في الأصل رغبة من اليائسات .. علمت أن الست "علانة" كانت تهتم بي وانا ظننت أن أعمالها وإهتمامها لي كانت لوجه الله .. والأخت "هلانة" كانت تتعمد أن تذهب إلي المؤتمرات الروحية لكي تتقرب مني .. لكن كنت اتخذ هذه التصرفات كنوع من البساطة والإخوة أو الصداقة .. بيني وبينكم بعد ما أدرك الأصدقاء والأقرباء والأحباء عدم إهتمامي بمثل هذا الموضوع تركوني و وجدت نفسي وحيدا لا عائلات ولا حتي اصدقاء .. يبدو أنهم وعلي رأي التعبير المصرى " رموا طوبتي " ...!
أكيد هذه النوعية من الزواج تحتاج إلي فكر آخر يقوم علي اساس تبادل المصالح بينى وبين المرأة التي سوف تكمل معي الشوط الأخير من لعبة الحياة , ولكوني أعيش بمفردي زمنا سألت عن تكلفة المعيشة اليومية لزوجين , وبعد ما أدركت الحقيقة .. بدأت أحسبها .. ورجعت إلي رصيدي المادي ودخلي الشهري بعد ما صفيت أعمالى وحولتها إلي الإبن والإبنة , وأبقيت على جزء بسيط من الأعمال لي .. وبعملية بسيطة وجدتُ نفسي أنه لكي أعيش مع زوجة أخرى وفي نفس المستوي الذي اعيش فيه حاليا , عليّ ان أعمل بجهد أكبر ومضاعف , في الوقت الذي أبحث فيه عن الراحة والإطمئنان بعد هذا العمر ... أي أنني وجدت أن العملية خسرانة خسرانة .. تعب ومشقــــة وفتــــور بين ابنائى , وأخيـــرا قصـــر عُمــــر ..... !
هذا الموضوع أخذ مني حوالي 5 أيام وانا أفكر فيه وأحاول أن أضع مشيئة الرب أمامي .. وفجأة وأثناء وجودي في محل عملي تذكرت أنه سُهي عليّ طيلة الـ 5 أيام أن أنظر كعادتي إلي صورة زوجتي الغائبة والموجودة في حجرة مكتبي .. أنبتُ ووبختُ نفسى وأخذتُ بعضي بسرعة وهرولتُ إلي المنزل ودخلتُ حجرة مكتبي خوفا أن لا أجدها في مكانها .. ربما قالت لنفسها سوف أترك له المكان لكي لا أقيد قراره و يفكر براحته ولا يشعر بالحرج مني ... لكن وجدتها في مكانها , مرتدية طرحة فرحها وتبتسم لي ... "وحشتني , زي النهارده كان يوم رحيلي عنك" .. خجلتُ من نفسي .. ورأيت الدموع تسيل من عيونها .. تعجبتُ إقتربتُ من الصورة أكثر وأكثر إكتشفتُ من خلال زجاج البرواز أن هذه الدموع هو إنعكاس دموعي "أنا" التي كانت تسيل علي وجنتى. !!
فعلا .. فات الكثيــــر ياحبيبتي .. و مش باقي إلا القليل . ده اليوم في بعدك سنــة , و ياعيني على الصابرين .!
ومع هذا ظل السؤال في عقلي .. هل استطيع الصمود أمام طبيعة الحياة وأبقي علي عهدي .. أم أنهار وأسبح مع تيار الحياة وأنقض عهدي ..؟ حيثُ أنني الآن إجتزتُ الهاف تايم الأول من الشوط الأخير في لعبـــة الحيــــاة ..!!!
سؤال صعب عليكم وعليّ ....! مـــع تحيــــاتي .