سحر الجعارة
«حبيبة طارق» ليست مجرد طالبة تعرضت للعنصرية والتنمر والسب والقذف، «حبيبة» عنوان مرحلة مرتبكة تشوهت فيها الهوية المصرية وتبدلت المكونات الاجتماعية وتراجعت المؤسسات الفكرية والثقافية.. إنها نتيجة حتمية لأكثر من 30 سنة من التجريف الفكرى والثقافى، نتيجة حتمية لتوازنات سياسية، (روج لها التيار السلفى)، كان عنوانها الأبرز «ازدراء الأديان» وتحريم الاجتهاد والزجّ بالمفكرين خلف السجون.. ولم يكتب سقوط الإخوان نهاية هذه المرحلة، بل بدأ الحصاد.
«ورثة الإخوان» جمعوا لوبى «العاملون فى الصحراء»، وكرسوا فكرة «الاستعلاء الدينى»: المنتقبة أتقى من المحجبة، والمحجبة محترمة أكثر من المحتشمة.. والسافرة فى نار جهنم «دنيا وآخرة». بدأت بلورة «أسلمة المجتمع» على يد جماعة الإخوان والسلفية الجهادية، وكان لفكر «محمد بن عبدالوهاب» الدور الأبرز والأهم فى تغيير سلوك المرأة ليصبح متسقًا مع أيديولوجية متعارضة مع المنهج الوسطى للدين الذى اعتادته مصر.
وكانت المرأة هى «حاجز الفصل» وتقطيع أوصال المجتمع إلى رجال ونساء، على غرار ثقافة الصحراء.. وهنا يبرز متغير آخر، وهو «استعلاء النوع»، فالرجال قوامون على النساء، وهو ما طبقوه عمليًا بأن تركوا المرأة فى قاع المجتمع، وأن تقبل بتعدد الزوجات، وحرمانها من التعليم والعمل والميراث، وفى اعتصامات الإخوان المسلحة برز دور المرأة فى الجهاد، (لن أقول جهاد النكاح)، بل على الأقل فى استغلال الأطفال دروعًا بشرية ضد محاولات فض الاعتصامات.
هذا المناخ كله كان يؤصل للفرز الدينى وتكفير الآخر سعيًا لأن تسقط مصر، وهو ما يحتاج لزرع خلايا إخوانية نائمة فى العمود الفقرى للمجتمع، (التعليم على رأس مؤسسات الدولة)، وتكليف البعض بأداء مهام هيئة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» فى مختلف الدوائر الاجتماعية!.
لم تكن «حبيبة» هى الهدف، كان الهدف أن نسمع صوتهم وتهديداتهم للشابة، أن نُوصَم جميعًا بعدم الاحترام وانعدام الأدب، أن نتذكر أن شعر المرأة وصوتها ووجودها كله «عورة»، وأن «التعليم العالى» تجاوُز لمكانتها «الدنيا» فى المجتمع.. لكن السوشيال ميديا كانت الأعلى صوتًا. صورة حبيبة بمظهرها الوقور، ابتسامتها الهادئة، وشعرها المتمرد على القيود الظالمة، فستانها البسيط، ورِقّتها، فجأة انتشرت على آلاف إن لم يكن ملايين الحسابات على السوشيال ميديا.. تحولت «حبيبة» من عنوان للقهر والتنمر والعنصرية إلى «أيقونة تمرد»، صرخة أنثى فى وجه مجتمع تتبدل أحكامه وأعرافه وقوانينه لتصبح سجنًا كبيرًا يحاصر النساء.. صرخة حطمت جدران الصمت الملونة بالحجاب والبوركينى داخل كل الطبقات الاجتماعية. صوت حبيبة تحول إلى صوت جماعى، الناس ترفض «الحرية الانتقائية»، ترفض المطالبة بحق نزول حمامات السباحة بالبوركينى، والسماح للمحجبات بدخول البارات والملاهى الليلية، وتُمنع صبية من أن يتنفس شعرها. وملامح «حبيبة» البريئة عرضت للناس صورًا من الماضى (عام من حكم الإخوان) انتهى بثورة يونيو، التى تتزامن مع نشر المقال.. وكأن البعض لم يكن قد اكتشف أن «الإسلام السياسى» يكمن داخل ضلوع الوطن وأنه يتربص للحظة قد تضعف فيها الدولة لينْقَضَّ عليها.. أو كما كتبت على «فيس بوك» أن (اختراق الدواعش جامعة طنطا هو سيناريو لإفشال الدولة، الذى حذر منه الرئيس «عبدالفتاح السيسى».. والسؤال عن ديانة طالبة «أثناء الامتحان» عصف بالدستور الذى وافق عليه الشعب)!
عبارة المُراقِبة للطالبة «حبيبة»: «إنتى قررتى تبقى مش محترمة وقليلة الأدب»، هى سب وقذف يعاقب عليه القانون!.. تخيل دولة تُدار بلا دستور أو قانون، ويحكمها من الباطن خفافيش الظلام!.
تخيل مُراقِبة تسأل طالبة عن ديانتها، بعدما قضى الدكتور «جابر نصار» على التمييز الدينى حين كان رئيسًا لجامعة القاهرة، ومع عنصرية المراقبة تتنمر وتتطاول على أهل الإسكندرية جميعًا.. لأنهم خالفوا «الكتالوج السلفى»، حطموا «نمط الحياة» الرجعى.. ما فعلته المُراقِبة وزملاؤها هو إعلان عن انتماءاتهم.. عن وجودهم.
كنت أتمنى أن أسمع تصريحًا للسيد الدكتور «خالد عبدالغفار»، وزير التعليم العالى والبحث العلمى، لكنه أيضًا كان فى حالة «استعلاء سياسى»، وربما لم يستشعر خطر «سلفنة الدولة» حتى الآن!!.
نقلا عن المصرى اليوم