" بقلم المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سورية
كانت كنيستين كبيرتين تُشرفان على ساحة "المطران جرمانوس فرحات" أو "ساحة فرحات"، حيث يوجد تمثال لمطران الموارنة العلامة جرمانوس فرحات "1725 – 1732" فيها، وهو من أعطى الساحة اسمها، وتتوزع من هذه الساحة، أزقة عدّة تؤدي إلى كنائس أُخرى تمثِّل غالبية الطيف المسيحي في حلب.
وكان سكان البيوت العربية، المتواجدة آنذاك على محيط أو قرب الساحة، يتجمعون مساءً ويجلسون على الدرج العريض الخارجي لكنيسة الموارنة، ليتسامروا ويحلموا في المستقبل.
كنت أحلم كيف كانوا يتسامرون، وكيف كانوا يحلمون، بحاضِرهم وبمستقبلهم، وكانت حكايا جدتي التي كانت تحدثني عن هذه الساحة، حيث دار جدّي، تستيقظ من خلال الأحلام، فأتخيل نفسي جالساً على الدرجات نفسها، حتى كبرتُ قليلاً وأصبحت - عندما أمرّ مع أترابي في الساحة غير البعيدة عن منزلي - نجلس على الدرج ونتسامر، دون أن يعرف أصدقائي ماذا تعني هذه الجلسة لي من معانٍ.
بعد سنوات طويلة، وخلال السنوات المرعبة السابقة، أصبحت ساحة فرحات على حدود الصراع، وهجرها سكانها بعد عشرات القذائف التي طالتها وأصابت الكنيستين بإصابات أدت الى تهديم سقف كنيسة الموارنة، وتحطيم وحرق اجزاء الكنائس والدور المحيطة.
اليوم نجلس في ساحة إحدى الكنائس، والصغار والمراهقين من كلا الجنسين يلعبون ويجلسون على درج الكنيسة، يكررون مراهقتي.
أجلس على الدرج مُشبِعاً أحلام طفولتي ومراهقتي وحكايا جدتي، وأتطلع الى الأطفال والمراهقين والشباب، وأسأل نفسي عن أي مستقبل ينتظرهم.
كانت تغادرنا عائلات عديدة خلال سنوات الأزمة، الى بلدان شتّى، وكل أسبوع كنّا نسأل نفس السؤال، من سافرَ هذه الأيام؟
زادت معرفتي بالعائلات فزاد ألمي لفراقهم.
لكني أعذرُهم، وأتفهمُهم ...
أتفهم لماذا لن يعودوا، على عكس ما يُطبِّل ويزمِّر الكثير عن العودة ..
أتفهم أنكم لم تستطيعوا أن تتحملوا الكثير من الضغوط النفسية والاقتصادية ...
أتفهم خوفكم من المستقبل، عندما تنظرون إلى عيون أولادكم ..
أتفهم عدم تحملكم لكذب بعض المسؤولين في وعودهم البراقة ...
أتفهم خوفكم من الأحداث والجنون الذي يقوده البعض ...
أتفهم قَرفكم من بعض مسؤوليكم الروحيين الذين ما صنعوا الشيء المهم لكم أيام الرخاء ليساعدوكم على البقاء، وهم اليوم يطالبونكم بالبقاء تحت مسمّيات شتّى، بدءاً من الوطنية وانتهاءً بالتشبث بأرض المسيحية والأجداد، ولكنكم تعرفون أنهم يدافعون عن بقائهم وخوفهم من أن يصبحوا لوحدهم.
أتفهم أن الغلاء طحنكم ... وأن المستقبل أخافكم ... وأن فقدان مقومات الحياة الدنيا قد أرهقكم ... وأن الخوف من كونكم حطباً لأتون هذه الحرائق .... أبعدكم.
ذهبتم .... وأنا أعرفُ أنكم لن تعودوا إلا لكي تبيعوا ممتلكاتكم وتقطعوا آخر خيوطكم هنا.
رحلتم .... فلا تلتفتوا إلينا الآن، وأسسوا لِمستقبلكم بعيداً عن الكذب والغش والخداع الذي مورس علينا.
ولكن ... لا تنسوا حليب هذه الأرض، ولا طرقاتها ولا أرصفتها ولا طيبتها ... فانشروا طيبتها من خلالكم.
كونوا سفراء طِيبَةِ أرضها في مغترباتكم.
وعلّموا أولادكم أن لهم أهلاً بقوا لأنهم لم يستطيعوا الرحيل ...
ولأن درج كنيستهم يشدهم إليه
اللهم اشهد اني بلغت