لم أكن افكر أبدا في كتابة هذا المقال مهاجما لاحد ـ أي أحد ـ في هذه الايام المباركه لكنه التليفزيون، هذا من ناحية. من ناحيه أخري أنا أعرف وأومن من زمان ان من يملك يحكم ولكن ليس الي النهاية فالناس تستطيع في اي مكان واي زمان ان ترفض وان تقاوم. مقولة من يملك يحكم قديمة في التاريخ قيلت في معرض الهجوم علي الاقطاع في اوربا ثم قيلت في معرض الهجوم علي الرأسمالية في اوروبا ايضا وقيلت في مصر بعد ثورة يوليو في معرض الهجوم علي العصر الملكي وستظل تقال دائما ويستخدمها كل من لا يملكون ضد من يملكون تبريرا لاعمالهم او ملكياتهم فيما بعد وهي مقوله ليست خاطئة معناها المجرد لكنها فقط تخفي امكانية المقاومة التي جعلت النقابات في الدول الرأسمالية تحصل للعمال والمجتمع علي مكاسب عجزت عنها الأنظمة الشيوعية لشعوبها التي اكتشفت ايضا انها لم تكن تملك وانها الدولة التي كانت تملك كل شئ فانتفضت هذه الشعوب بدورها علي النظام الشيوعي وتبخر في اكبر معاقله. هذا كلام يبدو لي كبيرا جدا عل ما اريد التحدث فيه لكن لم اجد غيره معبرا عما يجري في التليفزيون المصري في رمضان هذا العام .
التليفزيون المصري الذي هو ملكية عامه لكنه لا يقبل الا بسياسة الدوله ولا يتيح الفرصة للمعارضة الا بحساب وكل ذلك عرفناه وعرفه الجميع فانصرفوا عنه الي الفضائيات المصرية والعربية، استغنوا عنه بوصلة دش لا تكلفهم غير ثلاثين جنيها اصبحت تساوي الملايين المصروفه عليه والتي تصرف لتطويره. وحكاية التطوير مهما قيل فيها فهي سياسيا لا تعني شيئا لانه سياسيا لن يتم أي تطوير الا في شكل البرامج وديكوراتها وهذا كله لا يضايقني ولا يضايق أحدا من المهتمين بالسياسة أو الشأن العام لانه كما قلت هناك عشرات المحطات التي يمكن أن يلجا اليها الناس ويجدوا فيها كل شيء ابتداء من حوادث الطرق الي شتيمة الحكومة عن اخرها لكن هناك بالفعل جوانب اخري من التطوير في استحداث قنوات جديدة او في الاقبال علي اذاعة المسلسلات التي لا اري فيها مشكلة فالانسان يستطيع ان يحدد لنفسه ما يشتهي والحياة لن تعطي احدا الوقت ولا القوة لمشاهدة كل شئ بل بالعكس ربما اري في هذه الكثرة دليلا علي القدرات الكبيرة لصناع الدراما في مصر التي كادت تنهار امام الدراما السورية منذ وقت قريب مثلا.
انا اتحدث هنا عن اكثر من قناة مصرية وعلي رأسها النايل كوميدي التي المفترض فيها ان تروح عن البشر فاذا بها تشن أكبر حملة علي العقل المصري وكأنما هناك سباق علي مسخرة كل شيء من العلم الي التدريس الي النشرات الاعلاميه الي الاثار الي التاريخ المعاصر والقديم . كل شئ فجاه اصبح قابلا للتقليد والمسخره بشكل كثيف وشامل كانه لم يعد لدينا شيئ حقيقي او محل احترام وتقدير .
ليس هكذا ابدا يكون التقليد الذي بلا شك لدينا ممثلون من كل صنف ولون بارعون فيه وليس هكذا نعبر عن مواهبنا . يا سادة الكوميديا ضحك ولكن ليس علي العلم والعمل ولا علي انجازاتنا التاريخية والعقلية. الكوميديا ضحك علي القيم القديمة مثلا .علي التزمت، علي سوء الفهم، علي الادعاء، علي الحذلقة وغير ذلك من مظاهر السلوك . لكن ليس كم قلت علي العلم والثقافة والتاريخ والأبطال هذا لم يفكر في عمله الغوغاء فما بالنا بجهاز نملكه اسف تملكه الدولة يفعل ذلك ؟ هل رأت الدولة ان تسبق المحبطين من شعبها وتجرد كل شئ من قيمته .
هذه المسخرة من العلم والتاريخ والحضارة في برامج تجعل مسؤول الاثار استاذ محتاس وكل ما يقال عن الاثار هجص او مدرس يسخر من كل الاساتذه والتدريس والعلم واللغة والنحو والصرف والقواعد وكل ما يخص العملية التعليمية. من الذي سمح بذلك الهجوم علي العقل المصري بهذه الكثافة تحت شعار التسلية والضحك . يا اسيادنا ان مسرحية واحدة عرضت في النصف الاول من السبعينيات من القرن الماضي وهي مدرسه المشاغبين انتجت اجيالا لا تحترم العلم ولا التعليم ولا من يقومون به. لقد اراد بها المؤلف انتقادا للعمليه التعليميه مبكرا عن غيره ومحذرا لكن الخروج علي النص جعلها علي غير ذلك .وللاسف ساعدها انهيار العملية التعليمية ذاتها فهل ترون ان كل شئ في مصر قوي وبخير ولا يتاثر من هذه السخرية اقصد المسخرة لا اظن . اذن لماذا ؟. هو الهجوم علي العقل .
الحقيقة علي البقية الباقية وما اقلها عند المصريين الان وهم يعانون ما يعانون من غلاء واهمال ويهربون الي الاخرة لكن لا يزال في الكثير منهم بقية من عقل وما زالوا قادرين اذا توفرت لهم القيادة الصحيحة علي العوده للدنيا والاحتفال بها وتنميتها . الذي تفعله النايل كوميدي هو محاولة واسعة ومركزة وقوية للاسف لتسطيح وعي الناس الذي صار مستعدا لذلك ليفعل بهم من يشاء ما يشاء .
لقد اخترت هذه القناه لاروح عن نفسي قليلا فوجدت انني امام تفاهات لا تليق ابدا بمن يفعلها او وافق عليها ورحت افكر ان ذلك يمكن ان يكون قصورا في الفهم للتقليد او غيره من فنون الفرجه ثم رحت اقول لنفسي ربما هو اندفاع أكثر في منافسة قناة موجة كوميدي ثم لما اعياني التفكير لم اجد غيرانها محاولة نشطة ومركزة لتسطيح الوعي وساعدني علي ذلك ما فعلته هذه القناة من قبل حين جعلت شعبان عبد الرحيم المطرب الشعبي الذي احبه لكن في مكانه كشخص يروح عنا في بعض الاحيان اقول جعلته يحاور طائفة كبيرة من المثقفين والمعارضين وينطق بأشياء لا يعيها تلقن له عبر السماعة فضحك الناس علي شعبان والمعارضة والمثقفين معا وقلت هذه مرحله جديده بعد السخرية من قادة الفكر الذين لا اعرف كيف وافقوا علي ذلك الي مسخرة العلم والتاريخ وكل شئ وعدت الي الشعار القديم من يملك يحكم ولكن هذا لا يليق ابدا بمن يتحدثون عن المستقبل .
اقول هذا اسفا لنفسي لا لاحد انا الذي لا اعرف الجمود فيما اكتب ولا اتردد في الدفاع عن الجديد لكن ما تفعله هذه القناة تجاوز كل شئ لانه يتجه بالعقول الي الدرك الاسفل من الاستخفاف والحياة معا وسوف نري اثار ذلك فيما بعد .
نقلا عن الوفد |