بقلم: د. مصطفى النبراوي
في مايو الماضي قدم الرئيس الأميركي "باراك أوباما" ميزانيته للعام المالي 2010، التي تعكف على مناقشتها لجنة الاعتمادات بمجلسي الكونغرس الأميركي، وتتمثل أهمية تلك الميزانية في كشفها عن أولويات الإدارة الأميركية التي أعلنت عن التزاماتها الدولية في أكثر من محفل دولي خلال زيارة الرئيس ووزيرة خارجيته، وتكشف الموازنة عن اهتمام الإدارة الأميركية الجديدة بقضايا الديمقراطية والحكم وحقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط الموسع وشمال أفريقيا فقد طالبت الإدارة بزيادة الدعم لتلك القضايا، وبجانب الشراكة مع منظمات المجتمع المدني المحلية، ستعمل واشنطن على تدعيم مبادرات القانون والحكم. وعن الدعم الأميركي الذي طلبه الرئيس الأميركي باراك أوباما لتعزيز الديمقراطية في مصر في ميزانية العام المالي 2010 أشار تقرير أعده ستيفن ماك انيرني مدير برنامج الديمقراطية في الشرق الأوسط في تقرير صادر عن البرنامج تحت عنوان تقرير "الميزانية الفيدرالية والاعتمادات للسنة المالية 2010، الديمقراطية والحكومة وحقوق الإنسان في منطقة الشرق" إن قضية الديمقراطية والحكم في مصر لم تعد أولوية في العلاقات الأميركية - المصرية.
يرصد التقرير أنه على الرغم من خفض الدعم الأميركي للديمقراطية في مصر إلا أن هذا لا ينفي القلق الأميركي الصريح بشأن قضيتي الإصلاح وحقوق المصريين، ويذهب التقرير إلى أن الإدارة الجديدة ستعمل على استكمال ما ركزت عليه الإدارة السابقة، وستعمل على تدعيم الحريات المدنية، وإدخال الشفافية والمحاسبية في المؤسسات الحكومية، وتعزيز المؤسسات الحكومية، وستعمل الحكومة الأميركية مع نظيرتها المصرية على تشجيع جهود الأخيرة في مجالي الإصلاح السياسي والإقتصادي التي التزام بها الرئيس المصري في برنامجه الانتخابي في الانتخابات الرئاسية عام 2005، والتي اتسم التحرك المصري فيهما ببطء شديد -حسبما رصد التقرير-، ويذهب التقرير أن من شأن المساعدات الأميركية دفع الجهود المصرية "البطيئة" في تلك القضيتين قدمًا وسريعًا. بالإضافة إلى تدعيم الدور المصري الداعم للجهود الأميركية بمنطقة الشرق الأوسط ومحاربة الإرهاب.
ويُشير التقرير إلى أن هناك هاجسًا أميركيًّا لأن عددًا من المنظمات غير الحكومية التي تحصل على دعم من الولايات المتحدة تربطها علاقات بالنظام السياسي المصري والحزب الوطني الحاكم، وعادة ما يطلق عليها المنظمات الحكومية - المنظمات غير الحكومية GONGOs، وتلك المنظمات تعمل على الحفاظ على الوضع الراهن، وتدعيم التوجه الحكومي. وهو ما يرتبط بقضية أكثر حساسية وهي أن النظام السياسي المصري هو من يحدد المنظمات التي تحصل على دعم من الحكومة الأميركية. فقبل عام 2004 كانت الحكومة المصرية هي الدولة الوحيدة في العالم التي تحدد كيف يتم تقسيم وتوزيع المخصصات المالية الأميركية للديمقراطية والحكم.
تتبنى الميزانية المقترحة نهج تخفيض المساعدات الإقتصادية في ميزانية العام المالي 2009، ففي ميزانية هذا العام تم تخفيض المساعدات الاقتصادية إلى أقل من 415 مليون دولار مُنحت لمصر حسب ميزانية العام المالي 2008. وصاحبَ هذا الانخفاض انخفاضٌ في التمويل الأميركي للديمقراطية والحكم الرشيد في ميزانية العام المالي 2009 من 54.8 مليون دولار في العام المالي 2008 إلى 20 مليون دولار في العام المالي 2009. وهذا الانخفاض في الأموال المخصصة لتعزيز الديمقراطية أثار ردودًا سلبية داخل منظمات تدعيم الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل القاهرة وواشنطن لأنها المرة الأولى في تاريخ الكونغرس الذي يخفض الدعم المخصص للديمقراطية، وهذا الانخفاض قلل من المخصصات المالية التي يمكن إنفاقها على الديمقراطية والحكم الرشيد، وانعكس هذا الانخفاض على الأموال المخصصة لمؤسسات المجتمع المدني، والتي كانت تقدر بـ 31.75 مليون دولار في ميزانية العام المالي 2008 ولكنها انخفضت في ميزانية العام الماضي إلى 7.3 مليون دولار وتصل في ميزانية العام المالي القادم إلى 7 مليون دولار.
ولما كان توزيع المعونات الأميركية على منظمات المجتمع المدني الساعي إلى تعزيز الديمقراطية يتم بموافقة الحكومة المصرية، قدم الجمهوري من ولاية كانساس سام براونباك Sam Brownback تعديلاً وافق عليه الكونغرس في ديسمبر عام 2004 ينص على أن الحكومة الأميركية لها السلطة في توزيع المخصصات المالية للديمقراطية مباشرة على مؤسسات مستقلة بغض النظر عن عدم موافقة الحكومة المصرية. وكان هذا التعديل جزءًا من قانون المخصصات المالية للدول والعمليات الخارجية منذ عام 2005 إلى عام 2008، واختفاء هذا النص في ميزانية عام 2009 التي تمت الموافقة عليه في شهر مارس أثارت قلق دعاة الديمقراطية في مصر. بيدَ أن هذا النص موجود ولكنه تحت قسم "سُلطات خاصة" تحمل صورة عالمية أكثر من قصرها على القاهرة، مشيرًا في صيغة عام 2009 إلى عدم خضوعها لموافقة أي بلد أجنبي.
وهذا وقد طلبت الحكومة المصرية من نظيرتها الأميركية عدم تقديم الدعم إلى المنظمات غير المسجلة من قبل الحكومة المصرية على أنها منظمات غير حكومية، منها منظمات محلية ودولية غير مسجلة من قبل الحكومة المصرية على أنها منظمات غير حكومية مثل بيت الحرية والمعهد الجمهوري الدولي والمعهد الديمقراطي القومي للشؤون الدولية. ويرصد التقرير أنه خلال السنوات الأخيرة قدمت الولايات المتحدة ما يقرب من 10 مليون دولار إلى منظمات غير مسجلة، وهو ما أثار حفيظة الحكومة المصرية، فقد رأى البرلمان المصري الذي سيطر عليه الحزب الحاكم أن هذا يعد تدخلاً في الشؤون الداخلية المصرية. وبتخفيض الدعم الأميركي لتعزيز الديمقراطية في مصر من 31 مليون دولار إلى 7 مليون دولار، اختفت كليةً العشرة ملايين دولار التي كانت تقدمها الحكومة الأميركية إلى المنظمات غير المسجلة.
وأثار تخفيض الدعم الأميركي للديمقراطية وحقوق الإنسان هواجس كثيرة من دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل القاهرة وواشنطن على حد سواء ليس لآثارها السلبية على إمكان تحقيق إصلاح حقيقي أو المشاركة المدنية، ولكن لتراجع قضيتي الديمقراطية وحقوق الإنسان من أجندة العلاقات الأميركية - المصرية. ويبرر عدد من أعضاء الكونغرس والإدارة الأميركية أن هذا راجعٌ إلى أن المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني المصرية غير قادرة على تخصيص الأموال المقدمة في المجالات المخصصة لها، بل يذهب إلى المنظمات غير المصرية مثل وكالة التنمية الدولية الأميركية والسفارة الأميركية في القاهرة تفتقد إلى الحس والقدرة على إدارة البرامج التمويلية الأميركية حسب الهدف منها. وهو الأمر الذي دفع عديدًا من قيادات المجتمع المدني إلى القول إن الهدف من هذا التخفيض إرضاء النظام السياسي المصري، ويشير كاتب التقرير إلى أن جزءًا من الدعم الأميركي إلى منظمات المجتمع المدني غير المسجلة سيتم من خلال عدد من المؤسسات والبرامج مثل مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط، ومكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل والتي ستوزع كل منهما 1.3 مليار دولار على المنظمات غير المسجلة. وما تنفقه المؤسستان (2.6 مليار دولار) ينخفض بنسبة 74% عمَّا كانت تقدمة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية خلال السنوات الماضية. وهذا هو حل مؤقت لتقديم الدعم إلى تلك المنظمات غير المسجلة، ويقول عددٌ من المسؤولين الأميركيين أن لدى الإدارة رغبة في صياغة استراتيجية طويلة المدى لدعم المنظمات غير المسجلة. ومن غير الواضح مستويات الدعم إلى تلك المنظمات خلال العام المالي القادم 2010 أو ما بعده.
ومشكلة أخرى فيما يخص المساعدات الأميركية هو إذا ما كان المعونات مشروطة باتخاذ إجراءات وخطوات إصلاحية، فقد وافق الكونغرس الأميركي على مشروع قانون (PL110 - 361) بتجميد 100 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر التي تصل إلى 1.3 مليار دولار؛ إلى أن تستجيب مصر لثلاثة طلبات أساسية هي، أولاً: إغلاق الأنفاق على الحدود المصرية - الإسرائيلية والتي يتم من خلالها تهريب الأسلحة إلى غزة وإسرائيل. ثانيًا: إعادة تأهيل وتدريب الشرطة المصرية للتعامل مع مسائل حقوق الإنسان. ثالثًا: الفصل بين ميزانية وزارة العدل والقضاء المصري. وإن القانون يمنح وزيرة الخارجية الأميركية إجراءً احتياطيًّا في شكل "استثناء أمن قومي" إذا كانت الشروط غير مستوفاة ولكن المساعدات العسكرية في مصلحة الأمن القومي الأميركي، والذي يعني استمرار تدفق المساعدات العسكرية. وفي مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط في مارس أعلنت وزيرة الخارجية السابقة "كونداليزا رايس" عن استخدامها الحق الممنوح لها. ويرى التقرير أن الكونغرس لن يتخلى عن مشروطية المساعدات العسكرية لمصر على الأقل في المدى القصير.
يرصد التقرير أن الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة "باراك أوباما" لا تسعى إلى رسم علاقة خطية ثابتة لموقع الديمقراطية ضمن قضايا العلاقات الأميركية - المصرية. ويشير إلى أنه في الوقت الذي تزيد فيه المخصصات المالية الأميركية للإدارة الجديدة لتدعيم الديمقراطية والحكم في دول كثيرة إلا أنها تقل بالنسبة لمصر. فخلال الفترة من 2003 إلى 2008 كانت القاهرة أكثر دولة عربية باستثناء العراق تلقيًّا للمعونات الأميركية لتدعيم الديمقراطية والحكم، ولكن في الميزانية المقترحة للعام المالي 2010 فإن المخصصات المالية لبرنامج الديمقراطية والحكم أقل من تلك المخصصة للبنان والضفة الغربية وغزة، ولكنها تزيد بنسبة ضئيلة عن المخصصة للأردن. وهو الأمر الذي يدلل على تراجع أهمية قضيتي الديمقراطية والحكم الرشيد في العلاقات الأميركية - المصرية، على الرغم من خطاب أوباما إلى العالم الإسلامي من القاهرة الذي أعلن دعمه للديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان خارجيًّا.
وحسب صيغتي مجلس النواب والشيوخ لقانون المساعدات الخارجية لعام 2010، تُقدر المساعدات العسكرية بـ1.3 مليار دولار، و250 مليون دولار مساعدات اقتصادية. وكل نسخة من مشروع القانون تتضمن تخصيص ما لا يقل عن 25 مليون دولار لبرامج الديمقراطية والحكم في مصر، والتي تزيد بخمسة ملايين دولار عن المبلغ الذي طلبته الإدارة. ويرى التقرير أنه عند هذه النقطة لا تتضمن أن نسخة من مشروعي القانون مشروطة على أي جزء من المعونة.
ولكن نسخة مجلس الشيوخ لموازنة العام المالي 2010 تخصص ما يقرب من 200 مليون دولار كهبات من أجل تعزيز المصالح المشتركة بين الولايات المتحدة الأميركية القاهرة، ولكن المشروع يطلب من وزيرة الخارجية مناقشة لجنة الاعتمادات قبل الشروع فيها. وهذه الفكرة مطروحة بصورة غير رسمية منذ عدة سنوات، وكانت تلك الفكرة موجودة في مشروع مجلس الشيوخ للمساعدات الخارجية للعام المالي 2008 إلا أنه حذفت في الصورة النهائية لقانون المساعدات الخارجية. ومن المتوقع أنه لن تدرج تلك الفقرة في المشروع النهائي لقانون المساعدات الخارجية لعام 2010.
بعد هذا العرض لصور المعونة الأمريكية المقدمة لمصر... وبمناسبة وزيارة السيد الرئيس للولايات المتحدة الأمريكية.. أود أن أركز على عدة مطالب أراها ضرورة للعلاقات المصرية الأمريكية (شعوب وحكومات ):
1. يجب أن يترك هامش حرية للإدارة المصرية يسمح بقدر من الاختلاف مع نظيرتها الأمريكية.. مما ينعكس إيجابًا على الدور الأقليمي لمصر. هناك أسئلة عديدة تدور حول مستقبل الدور الإقليمي لمصر في المرحلة القادمة على صعيد القضايا المتنوعة خصوصًا مع تنامي دور تركيا في المنطقة... وهو تنامي يؤكد على وجود خللاً ما في العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية.. فعلى الرغم من أن تركيا عضو في حلف الناتو إلا أن لديها حرية حركة تسمح لها بأخذ مواقف لا تتفق مع التوجهات الإمريكية.. وهذا هو ما ندعو له بأن تكون هناك مسافة بين المصالح المصرية وسياساتها وخطابها والمصالح الأمريكية وسياساتها وهذا في تقديري يصب في مصلحة الإثنين.. بعكس التطابق الشبه كامل الذي يضر بكل تأكيد بالمصالح المصرية ويضعف الدور الإقليمي لمصر.
2. إن فرض الديمقراطية بصورة طفرية على المنطقة.. ثبت فشله.. وإن هناك خطوات أولى من تحديد مدة الرئاسة والإنتخابات.. مثل
* التأكيد على ضرورة إطلاق حرية انشاء الأحزاب السياسية دون قيد أوشرط.
* حرية إنشاء وامتلاك الصحف والقنوات الفضائية للأفراد.
* إعادة تأهيل الجامعات المصرية طبقًا للمعايير الدولية.
* التركيز على المشاريع الإنمائية التي تخدم المواطن العادي (مدارس / مراكز صحية..).
* تسوية سياسية عادلة للقضية الفلسطينية / الإسرائيلية تُفرض من خلال المجتمع الدولي على كل أطراف القضية.