فاطمة ناعوت
فيلمٌ رمزىٌّ فلسفى يقفُ خارج المكان والزمان. لا يعبرُ عن مكان بعينه؛ لأنه يعبّر عن كل مكان فوق الأرض. وكذلك الزمان، قد يكونُ الأمسَ أو الغد، أو الأبدَ أو الأزل. هكذا قرأتُ فيلم «ريش» الذى حصد جوائزَ رفيعة فى مهرجان «كان» الفرنسى، ومهرجان الجونة المصرى، وأظنُّ أن جوائزَ أخرى فى انتظاره لأنه يناقشُ أفكارًا وجودية عابرة للزمان والمكان، وهى: «الانسحاق» و«التهديد» و«التغييب»، ثم «الخلاص». كلُّ كادر يحملُ قدرًا من التهديد بأن خطرًا وشيكًا قادمٌ، وأن العالمَ ليس على ما يُرام. لم أرَ الفيلمَ منشغلًا بفكرة «الفقر المدقع» كما أُشيع، رغم الزووم المتكرر على الأيادى الخشنة التى تعدُّ الأوراق المالية المهترئة، فالأسرة التى يدورُ حولها الفيلم تسكن فى بيت له جدران وسقف، ولديها تليفزيون وكاسيت وغسالة، وتملك قوتَ يومها، وبهذا تخرجُ من تحت خط الفقر الذى يفتقرُ إلى الحياة الآدمية. ولم أرَ الفيلم مسيئًا إلى مصر كما ذهبَ البعضُ، ليس فقط لأن مصرَ أكبرُ من الإساءة، بل لأن الفيلمَ كما أسلفتُ وجودىٌّ عابرٌ للمكان، مهمومٌ بأزمة الإنسان مع الانسحاق فى كل مكان وزمان.
اختار المخرجُ «عمر الزهيرى» أبطاله بعناية من بين البشر العاديين فى صعيد مصر. لم يلجأ إلى نجوم التمثيل من الصفّ الأول أو حتى الأخير؛ لأن فلسفتَه أن يعبّر المأزومون عن أزماتهم بمفرداتهم، وملامحهم، وملابسهم، وتلقائيتهم التى قد تخرجُ عن ساحة «الفنية» وتتمترس فى ساحة «الواقعية».
بطلةُ الفيلم «دميانة نصّار»، سيدةٌ مليحةٌ بسيطة من صعيد مصر، لم تتعلّم لغة التمثيل، لكنها تتقن الحياة، وهذا هو المطلوبُ منها. أن تؤدى دورَها كما تعيشه، ولكن وفق سيناريو الانسحاق الذى رسمته فلسفةُ الفيلم. كان صمتُها الدائمُ طوال الفيلم «كلامًا» مختزنًا فى قلبها الكسير، سمعناه وإن لم تقله. وملامحُها الجامدة، التى لا تضحك ولا تبكى ولا تنفعل، كانت صراعاتٍ صامتةً قرأنا فيها صفعات الانسحاق والإذلال التى تراكمت على أيامها، فخطفت منها تعبيرات الوجه حتى صار باردًا Poker Face لا يتغيّر أمام الفرح أو الفجيعة. الزوجُ الذى هو مصدرُ الإذلال، مثلما هو مصدرُ الأمان المادى المتقشف، شخصيةٌ عبثية، من أول الفيلم إلى آخره. يدخن رغم عوز أطفاله، ويُقتِّر على زوجته شحيحَ مالٍ يخبئه فى صندوق من الصفيح الصدئ. «يحتقرُ» فقرَه فيشترى نافورة غالية، ويكرر على مسامع أصدقائه نفس العبارة: «تِدِّى شكل حلو للمكان، وفى نفس الوقت شيك»، ليضعها فى بيت جدرانه مصدوعة وأثاثه بالٍ.
وكذا «يحتقرُ» عقل زوجته فيحكى لها، وهو يشرب كوب اللبن الساخن، عن حياته السابقة حيث كانوا يجلبون له بقرةً فوق صحن ليشرب منها الحليب ساخنًا. والزوجة تنصتُ بوجه خالٍ من التعبير، وكأن صمتَها احتقارٌ مضاد. يتحوّلُ الزوجُ إلى دجاجة فى لعبة سحرية، ويخفقُ الساحرُ فى إعادته لبشريته. والزوجةُ على حالها لا تنفعلُ ولا تصرخُ فى وجه الساحر، بل تسهرُ على رعاية الدجاجة وإطعامها أملًا فى عودة الزوج: مصدر الإذلال والأمان. تمرضُ الدجاجة/ الزوج، فيأمرها الطبيبُ البيطرى بعدم إطعام الدجاجة «البيض والفراخ»، وهنا قمةُ العبثية، فتوافقه، ليأتى المشهدُ «المفتاح»، حيث تكسرُ الزوجةُ البيضَ فى الحوض وتفتحُ عليه صنبور المياه، رغم جوع أطفالها.
الرمزُ هنا هو التخلص من «الحاجة» للرجل الذى صار دجاجة؛ لأن «البيض» للدجاجة هو «المال» للرجل. وتبدأ رحلة الكفاح والمرمطة والاستدانة والتعرض للتحرش حتى تعمل خادمة فى بيوت الأغنياء. تختلسُ علبة مربى وبضع قطع شيكولاتة حتى يتذوق أطفالُها شيئًا من «الحلو» يخفف مرارة الحرمان.
وبعد طردها من الفيلا تشترى قطعتى جاتوه إصرارًا على تحلية ألسن أطفالها المُرّة. ويعودُ لها الزوجُ محترقًا، لا حيًّا ولا ميتًا، فتداوى جروحه وتُحمِّمه، وتُطعمه ويبول على نفسه، وتصفعه لكى ينطق وينهض من رقاده. المتحدثُ الأوحد فى الأسرة صار صامتًا، والعائلُ صار المُعالَ والعبء. فتقرر الزوجةُ الخلاصَ منه، وذبح الدجاجة وغسل يديها من دمائها؛ وكأنها تعلن للمجتمع الفاسد أنها بريئةٌ من دم الرجل الذى أذلَّها حيًّا وأنهكها مُحتضرًا.
الفيلمُ يشيرُ بإصبع الاتهام صوب صدر أى مجتمع ذكورى يستعبدُ النساء وينحلُ «ريش» المرأة حتى تصير تمثالًا صامتًا من الشمع لا يفرح ولا يبكى. البطلة «دميانة نصار» ليس لها اسمٌ فى الفيلم، لأنها أىُّ وكلُّ امرأة منسحقة فى هذا العالم. وإضاءة نصف وجهها بالنور وإعتام النصف الآخر فى الظلال فى مشهد النهاية دلالة الصراع المعتمل داخل كلّ أم تتحملُ المرَّ من أجل أطفالها. تحية لصنّاع الفيلم، الذى سيصيرُ علامة فى صناعة السينما المصرية العالمية. «الدينُ لله والوطنُ لرافعى راية الوطن».
twitter:@fatimaNaoot
نقلا عن المصرى اليوم