فاروق عطية
5ـ يقول أنصار عبد الناصر أنه هو الذي أنهي عقودا طويلة من الجهل بإقراره التعليم'> مجانية التعليم، وأنه صاحب الفضل علي متعلمي الأجيال التي عاصرته وحتي اليوم، ولولاه لظل التعليم مقتصرا علي أبناء الأمراء والباشوات والباكوات وأبناء الأثرياء ومن استطاع إليه سبيلا، ولظل أبناء الشعب معظمهم فقراء كما هم جهلاء أميين حتي يومنا هذا.
ونري في ذلك مغالطة من العيار الثقيل، فالتاريج لا يكذب ولا يتجمّل، ويذكر أن مبادئ التعليم المجانى والإجبارى وتكافؤ الفرص التعليمية كانت واحدة من أهم أهداف الحركة الوطنية كجلاء المستعمر والديمقراطية تماما منذ ثورة 1919م. وبالفعل نص دستور 1923م على التعليم'> مجانية التعليم الأولىً وكان إجباريا، وفى عام 1944م تقررت التعليم'> مجانية التعليم الإبتدائى، وفى 1950م تقررت التعليم'> مجانية التعليم الثانوي. وكانت المدارس تلتزم بتقديم كل الكُتب المدرسية والكراسات والكشاكيل وكراسات الرسم ودفاتر خاصة بالخط العربي واللغة الانجليزية، وأقلام الرصاص والأساتيك وريش الكتابة وأسنانها المختلفة (بسط ونسخ ورقعة) ويوضع الحبر في دوايات مثبتة بالتُخَت، والطالب لا يشتري شيئا خلال مدة الدراسة. والمعلمون ذوي كفاءة يقومون بواجباتهم التعليمية علي خير وجه ولا مجال مطلقا للدروس الخصوصية. حتي التعليم الجامعي قبل الانقلاب كانت مصروفاته غير باهظة، ثماني جنيهات سنويا للكليات النظرية وإثنى عشر جنيها للكليات العملية يعفي منها كليا المتفوقون علميا أو رياضيا، وكليا أو جزئيا الفقراء الذين يقدمون ما يثبت ذلك.
والغريب أن فى زمن الجهل المزعوم ظهر أفزاز مصر العظام أمثال طه حسين وعباس العقاد وسلامة موسى ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وبنت الشاطئ، وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وبيرم التونسى وزكريا أحمد والسنباطي، والشيخ محمد رفعت والشيخ على عبدالرازق وغيرهم الكثير من الأفزاز والمفكرين، ولم يظهر في عصره الزاهرغير الإمعات والمزمرين والمطبلين.
6ـ يقولون أن له الفضل في إنهاء عقود طويلة من مخاطر الفيضان ببناء السد العالي. حقيقة كان لجمال عبد الناصر الفضل في إنشاء السد العالي ولكن. أول من أشار إلى بناء هذا السد هو العالم العربي الحسن بن الهيثم والذي لم تتح له الفرصة لتنفيذ فكرته وذلك بسبب عدم توفر الآلات اللازمة لبنائه في عصره. أول من فكر في إنشائه قبيل الانقلاب هو عثمان باشا محرم وزير الري في كل وزارات الوفد. فبعد إنشاء خزان أسوان ثم تعليته مرتين الأولى عام 1912م والثانية عام 1933م، كان الخزان يقوم بمهمته التخزينة لمدة عام واحد، وكان لابد من التفكير فى مشروع لتخزين مياه الفيضان، لعدد من السنين لمواجهة السنوات العجاف التي يقل فيها الإيراد، ووقاية البلاد من الغرق في سنوات الزيادة المفرطة.
تداول العلماء الفكرة، بعضهم فكر بأن يتم هذا التخزين إما فى بحيرة تانا حيث ينبع النيل الأزرق وعطبرة، وإما فى بحيرة فيكتوريا حيث منابع النيل الأبيض والفروع التى تصب فيه وتحمس معظمهم لذلك وكان التفكير هو التخزين خارج مصر. ورفض وزير الوفد عثمان باشا محرم فكرة التخزين خارج أرض مصر، وصمم على رأيه ودافع كثيرًا عن فكرة التخزين داخل الأرض المصرية، وأصر على أن يكون إنشاء السد العالى في موقع جنوب أسوان حتى يكون جزءه الجنوبى داخل أراضى السودان(كانت جزأ من المملكة المصرية) وجزءه الشمالى داخل الأرضي المصرية، وتم الانقلاب قبيل البدء في التنفيذ.
تقدم المهندس المصري اليوناني الأصل أدريان دانينوس إلي قيادة انقلاب 1952م بمشروع لبناء سد ضخم عند أسوان لحجز فيضان النيل وتخزين مياهه وتوليد طاقة كهربائية منه. بدأت دراسة المشروع في 18 أكتوبر 1952م من قِبل وزارة الأشغال العمومية وسلاح المهندسين بالجيش ومجموعة منتقاة من أساتذة الجامعات حيث استقر الرأي علي أن المشروع قادر علي توفير احتياجات مصر المائية وطُرح المشروع عالميا. في أوائل عام 1954م تقدمت شركتان هندسيتان من ألمانيا بتصميم للمشروع، وقد قامت لجنة دولية بمراجعة هذا التصميم وأقرته في ديسمبر 1954م كما تم وضع مواصفات وشروط التنفيذ. طلبت مصر من البنك الدولي تمويل المشروع. في 16ديسمبر 1955م، وبعد سلسلة من الزيارات الدولية قام بها الدكتور عبدالمنعم القيسوني وزير المالية والتجارة، أجرى خلالها العديد من المفاوضات، التي أسفرت عن اتفاق أعلنته الخارجية الأمريكية، بأن يتولى كل من (البنك الدولي، الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا)، تمويل مشروع السد العالي بتكلفة 1.3 مليار دولار.
وأعلنت الولايات المتحدة أن تمويل السد لن يتم دفعة واحدة، ولكن على مراحل ثلاث، الأولى: تقدم الولايات المتحدة مبلغ 56 مليون دولار، وتقدم بريطانيا مبلغ 14 مليون دولار، ثم تُقدم في المرحلة الثانية قروضا بقيمة 200 مليون دولار من البنك الدولي، بالإضافة إلى 130 مليون دولار كقرض من الولايات المتحدة الأمريكية، و80 مليون دولار قرضا من بريطانيا، على أن يتم سداد هذه القروض بأقساط سنوية بفائدة 5% على مدى 40 عاما. وتتحمل مصر في المرحلة الثالثة باقي المبلغ بالعملة المحلية، يضاف في هذه المرحلة منحتان، الأولى من الولايات المتحدة بقيمة 20 مليون جنيه، والثانية من بريطانيا بقيمة 5 ملايين ونصف المليون جنيه.
لم يسر العرض (الأمريكي – الإنجليزي) لتمويل السد بسلاسة، بل قيدته شروط وضعتها الدولتان لتنفيذ الاتفاق، أولها هو تحويل مصر ثُلث دخلها القومي لمدة 10 سنوات لبناء السد العالي، وفرض رقابة على المشروعات الاقتصادية الأخرى، ووضع ضوابط للحد من زيادة التضخم والإنفاق الحكومي. واشترطت أمريكا وبريطانيا أيضا، فرض رقابة على مصروفات الحكومة المصرية، وعلى الاتفاقيات الأجنبية أو الديون الخارجية، وألا تقبل مصر قروضا أخرى أو تعقد اتفاقيات في هذا الشأن إلا بعد موافقة البنك الدولي، وكان آخر الاشتراطات، الاحتفاظ بحق إعادة النظر في سياسة التمويل تجاه المشروع المصري في حالات الضرورة.
أثارت شروط الدول "المانحة" غضب عبد الناصر، إلا أنه رغم الغضب استقبل عبد الناصر "يوجين بلاك" رئيس البنك الدولي في مصر، وبعد مفاوضات وافق عبد الناصر على أن يكون للبنك الدولي حقوق "معقولة" في تفقد الإجراءات التي ستتخذها مصر للحد من التضخم، وعُقد على إثر ذلك اتفاق تم إعلانه في 8 فبراير 1956م، يقدم البنك بموجبه قرضًا قيمته 200 مليون دولار، ويتوقف تنفيذه على التوصل إلى اتفاق آخر مع لندن وواشنطن حول شروطهما التي أعلناها لتقديم المساعدة. وبعد 5 شهور من إعلان الاتفاق لتمسك عبد الناصر بفردية اتخاذ القرار وعدم خبرته السياسية في التعامل مع الغرب إضافة لعدم كفاية وحنكة المفاوضين، تحديدا في ظهر يوم 19 يوليو 1956م، أصدر المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية “لينكولن وايت”بيانا أعلن فيه سحب العرض الأمريكي لتمويل مشروع السد العالي، وأبلغ الرئيس الأمريكي "جون فوستر دالاس"، السفير المصري بالولايات المتحدة أحمد حسين، خلال إذاعة البيان، أن الولايات المتحدة لن تساعد في بناء السد العالي، وأن بلاده قررت سحب عرضها لأن اقتصاد مصر لن يستطيع تحمل هذا المشروع. في 19/7/1956م سحب البنك الدولي عرضه. كان رد جمال عبدالناصر الفردي المتسرع هو قرار تأميم قناة السويس الذي أعلنه ظهر يوم السبت 21 يوليو 1956م ، ثالث أيام عيد الأضحى المبارك، مما أدى للعدوان الثلاثي علي مصر.
عندما علم الاتحاد السوفيتي بذلك، أعلن سفيره لدى مصر في 18 ديسمبر 1956م عن رغبة بلادة في المساهمة في المشروع. في 27/12/1958م تم توقيع اتفاقية بين الاتحاد السوفيتي ومصر لإقراض مصر 400 مليون روبل لتنفيذ المرحلة الأولي من المشروع. في مايو 1959م قام الخبراء السوفييت بمراجعة تصميمات السد واقترحوا بعض التحويرات الطفيفة التي كان أهمها تغيير موقع محطة القوي واستخدام تقنية خاصة في غسيل وضم الرمال عند استخدامها في بناء جسم السد. في ديسمبر 1959م تم توقيع اتفاقية توزيع مياه خزان السد بين مصر والسودان. في 9 يناير 1960م بدأ العمل في تنفيذ المرحلة الأولي من السد، شملت حفر قناة التحويل والأنفاق وتبطينها بالخرسانة المسلحة وصب أساسات محطة الكهرباء وبناء السد حتي منسوب 130 مترا.
في 27 أغسطس 1960م تم التوقيع علي الاتفاقية الثانية مع الاتحاد السوفيتي لإقراض مصر 500 مليون روبل إضافية لتمويل المرحلة الثانية من السد. في منتصف مايو 1964م تم تحويل مياه النهر إلي قناة التحويل والأنفاق وإقفال مجري النيل والبدء في تخزين المياه بالبحيرة. بدأت المرحلة الثانبة وتم الاستمرار في بناء جسم السد حتي نهايته وإتمام بناء محطة الكهرباء وتركيب التُربينات وتشغيلها مع إقامة محطات المحولات وخطوط نقل الكهرباء. في أكتوبر 1967م انطلقت الشرارة الأولي من محطة كهرباء السد العالي وبدأ تخزين المياه بالكامل أمام السد العالي منذ عام 1968م، في منتصف يوليو 1970م اكتمل صرح المشروع
ولكن مع كل الآمال التي بنيت على فكرة إنشاء السد العالي وكيف أنه سيحمي مصر من خطر الفيضان ويوفر المياه الزائدة لوقت الحاجة كما سيولد الطاقة الكهربية، إلا أنه كانت له العديد من الآثار الجانبية السلبية على نهر النيل وأكثرها تكلفة أهمها:
ـ غمرت بحيرة السد قرى نوبية كثيرة في مصر وشمال السودان مما أدى لترحيل أهلها بما سمي بالهجرة النوبية.
ـ أدى السد العالي إلى تقليل خصوبة نهر النيل وحرمان الأراضي الزراعية من طمي النيل المغذي للتربة.
ـ عدم تعويض المصبات في دمياط ورأس البر بالطمي مما يهدد بغرق الدلتا بعد نحو أكثر من مائة عام وبسبب بعض العوامل الأخرى مثل الاحتباس الحراري وذوبان الجليد.
ـ كمية التبخر في مياه البحيرة كبيرة جدا لتعرض تلك المساحة الشاسعة لحرارة الشمس في المناج الشديد الحرارة، إضافة إلى انتشار بعض النباتات كورد النيل وإسهامها بعملية النتح وبالتالي مزيد من خسارة المياه.
ـ حجز السد الطمي عن المناطق الزراعية والتي كان يعتمد عليها المزارعون في لتخصيب التربة الزراعية وجعلها أكثرصلاحية للزراعة مما أدى لنقص المحاصيل والاستيراد من الخارج لسد الفجوى بين الاستهلاك والانتاج.
ـ كان جريان نهر النيل وفيضانه يوفر لمصر نصيب هائل من الثروة السمكية وبالأخص سمك السردين، ولكن إنشاء السد تسبب في حجز كميات كبيرة من الأسماك خلفه أو ربما في رجوعها عكس التيار مرة أخرى؛ مما حرم مصر من أنواع عديدة من الأسماك سواء قل عددها في نهر النيل أو انقرضت للأبد.
ـ قلة كمية المياه المتدفقة إلي مجري النيل بسبب تخزينها وحفظها لوقت الحاجة، ولتعويض النقص الحادث في مياه الري لجأت مصر إلى استخراج المياه الجوفية من باطن الأرض واستخدامها في ري الأراضي الزراعية البعيدة عن نهر النيل ولكن استخراج المياه الجوفية ونقلها مثّل تكلفة باهظة وعبء ثقيل على ميزانية الدولة.
ـ زيادة ملوحة الأرض الزراعية لعدم غمر الأرض بمياه النيل وغسلها أدي لتراكم املاح الصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم الضارة.
ـ ترسب الطمي الذي كان يستخدم في صناعة الطوب خلف السد وعدم انسيابه إلى مجري النهر، أدى لتجريف الأرض الزراعية من طبقتها الخصبة وبيعه بأسعار مغرية لأصحاب قمائن الطوب أدى لتدهور الكثير من الأراضي الزراعية وعدم صلاحيتها .
ـ إنتشار مرض البلهارسيا الذي لم يكن معروفا في صعيد مصر بسبب انتشارالقواقع التي تعيش في نظام الري الذي أنشأه السد العالي.
ـ زيادة النحت المائي حول قواعد المنشآت النهرية.
ـ يشكل السد العالي تهديدا عسكريا لمصر، إذ يصعب تصور النتائج إذا تم تفجير جسم السد وحجم الفيضان الذي سوف يكتسح مدن وقري مصر الواقعة على مسار النهر.
ـ يشتبه في أن إنخفاض المغذيات التي تنقلها المياه إلى البحر المتوسط هو السبب في إنخفاض أعداد الأنشوجة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
.......
نكمل مناقشة وتفنيد باقي انجازات عبد الناصر من وجهة نضر أتباعه والمنتفعين من عصره في المقال القادم إذا كان في العمر بقية.